صلاح الحضري/ تونس
يسود الصّمت بضع لحظات قبل أن تقطعه “شيماء” شقيقة “عليسة” قائلة:
ـــ حتّى وان توفّرت في أبي أسوأ الصّفات فلن أسمح لك أو لغيرك مجرّد ذكرها أو الاستشهاد بها. أعتبر ما أسرّته لك أمي ردّة فعل نتيجة انفعال ألم بها فبحثت عمّن يخفّف عنها منسوب التوتّر الذي أصابها. إذا كان قدومك إلينا بدافع التّحسر على ما أصابه فمرحبًا بك، أمّا وإن كان لغاية أخرى أستحي من توصيفها فدعني أعلنها صراحة لأقول إنّ عودتك من حيث قدمت ستكون أفضل لنا كذلك. قد تكتب الحياة لأبي ثانية فتندم حقّا على ما قلته. دعني يا عمّاه أسوق لك هذه المعلومة. لم تخل حياة أيّ واحد من ارتكاب الذّنوب وأحيانًا الموبقات فلا تلعب دور الرسول المعصوم من الأخطاء وتذكّر بأنّ خير الكلام هو ما قلّ ودلّ. لا نحتاج إلى سماع دروس في الأخلاق ولا في العلاقات الإنسانية من أيّ كان. احتفظ بها لنفسك لو شئت. لا نحتاج إلى سماعها منك أو من أشخاص آخرين.
حَمِيَ الوطيس وتكاثر الهمز واللّمز وهمّت “هاجر” بالتعليق عمّا قالته “شيماء” لكنّ زوجتي أنهت الخلاف قائلة:
ـــ لا داعي لخوض غمار مثل هذه النّقاشات في الوقت الحالي. نحتاج جميعنا إلى كبح جماح انفعالاتنا. إن كان ما يقوله الأطباء صحيحًا فالأجدر بنا أن نرتّب بيتنا قبل أن يفاجئنا رحيله. سامحه الله وغفر له. لقد أذاقني من العذاب ما دفعني إلى رفع شكاوي إلى أقرب الناس إلى قلبي.
أكملت السيدة “هاجر” تقول:
ـــ يحقّ لكم جميعا بأن تدافعوا عن أبيكم لكن لا تنسوا كذلك ما سبق وأن فعله. مهما كانت اختلافاتنا صغيرة أو كبيرة، فنحن أهل. لم نأت إلاّ نداءً للواجب وما يحتّمه الظرف. شقيقتي بحاجة إلى من يقف إلى جانبها ويؤازرها في هذا التّوقيت بالذات، لن نطمع في ملّيم واحد من مال مشبوه وذاك شأن لا فائدة من تكرار مناقشته. اتركوا الانفعالات جانبًا ولا تتحمّسوا بأكثر ممّا يعقل وافهموها كما يجب فمهما. ما حدَث لأبيكم هو عدل وقصاص في دنياه قبل أن يحاسب في آخرته. التّاريخ لا يرحم أحدا ومن كانت أمواله مشبوهة المصدر فلن تطهّرها مياه أكبر المحيطات أو حتّى أمطار الدنيا.
واصل زوجها يؤكد متحمسا:
ـــ للمال سلطان وكلّ البشر يحبّونه وأحيانا يعبدونه أكثر من عبادتهم لربّ هذا الوجود وهو زينة الحياة الدنيا وقوام سعادتها كما يظن العديد. لكن نسينا أنه قد يتحول إلى مسّبب للخصومات والاختلافات فذاك مشكل عويص لابدّ من إيلائه ما يستحقّ من أهميّة. لقد أعمى حبّ المال بصيرة السيد “زاهر” وأدخله في حرب عداء مع فاسدين كالوا له الكثير وحاولوا التخلّص منه في أكثر من مناسبة. ما أعرفه عن ظروفه المادية قبيل الثّورة أنه كان في ضائقة أجبرتني أحيانا إلى إعارته ما يحتاجه من أبسط الضّروريّات. لكن ما حدث في هذه السنوات الأخيرة من تحوّل عجيب دفعني لأسأل عن كيفيّة تجميع كلّ تلك الثروة التي أصبحت بحوزته. ما تعمّدت السّخرية حين وصفت ماله بالمشبوه لأنّني كنت قريبًا منه وعلى علم بأغلب أنشطته.
غلت الدماء في كل نقطة من جسدي وخلت أنّها سوف تنفجر من عيني أو من منخريّ. أية مُحاكمة أسمع؟ وما دخله في نهاية الأمر إن كانت الأموال التي جمّعتها بعرق جبيني سليمة المصدر أم عكس ذلك؟ أدرك تمام الإدراك بأنّ هذا المتحدّث حضر ليحصل على نصيبه في الميراث. ومَا قاله بخصوص إعارتي مبالغ ماليّة ليس إلاّ إدعاءً باطلاً وهو على علم بأنّ توقيت إعلان ذلك مقصود ويخفي أطماعًا لا حدّ لها. لسائل أن يسأل لم لم يطلب مُستحقه في السّابق؟ ضعفت ثورتي وهدأت سريرتي حين تذكّرت مزايا الترفّع عن مناقشة تفاهات صادرة عن تعيس. لو عكس لأصاب ولي من الوثائق ما يثبت دينه لي بمبالغ ماليّة بعهدته. يا إلاهي رأفة بعبادك فإنهم ضلّوا الطريق وهاهم يتسابقون نحو نيل المرتبة الأولى في الافتراءات والأكاذيب. “بلحسن” وأمثاله فاتهم قطار الشّرف والطّهارة والرّجولة. وهاهم يتمسّحون على عتبات الكذب في محاولة لإخفاء حقائق تكشف سفالتهم وانحطاط أخلاقهم. لست بحاجة إلى أن أدافع عن سلامة أموالي من أية شبهات لأنّني على يقين من أن حسد الحاسدين وكيد الكائدين أمكر من كلّ محاولات تبرئة الذمّة .
سمعت صوت خطوات تبتعد وتغادر الغرفة. ماذا هنالك؟ هل أفتح عيني لمعرفة ماذا يحدث أم أترقب قليلا؟ لحظات قليلة وتناهى إلى مسمعي صوت تهامس. بدا على ابني “أيوب” التردّد وهو يقول:
ـــ لن أستطيع ذلك ولن أسمح لأحد بأن يرتكب هذا الجرم في حقّه. كيف تفهم بأنني أعجز عن فعل ذلك؟
ويصل إليّ صوت “بلحسن” ضعيفًا وهو يقول:
ـــ أبوك في عداد الموتى يا “أيوب” ولن يعود إلى الحياة أبدًا. قلت ذلك منذ أشهر بأنه لعب دوره وانسحب من هذا الوجود، إنّ بقاءه على تلك الحالة سوف يزيده تألما وعذابًا. خوفي يا عزيزي لو طالت هذه الغيبوبة أكثر من ذلك حينها تأكّد من أنّ خصومه سوف يطالبونكم جميعًا بدفع تعويضات عن خسائر نجمت عن شراكة راكدة بعد تعرّضه للحادث. لست مطالبا بأخذ الموافقة من أيّ كان. هذه المسائل تحسم بالفراسة والحكمة والتّعجيل بموته هو في نهاية الأمر رحمة تقدّم له، وليست جريمة ترتكب في حقّه. مثل هذه التصرّفات تحدث في أكبر الدّول وهي في نظر قوانين الدّنيا تعتبر أعمالاً إنسانية تستحقّ الشّكر والثّناء.