ذ. صلاح الحضري/ تونس
أجمل ما في هذه الحياة إحساس بالرّاحة والطّمأنينة. وأجملُ ما فيها كذلك أن تطلب العفو ممّن أذنبت في حقّهم بقصد أو دون قصد. قد لا يدرك بعض النّاس أنّ الاعتذار هو انتصار ونخوة وانتشاء وليس ضعفًا وإنَّ التكبّر أو التّعالي ليس إلاّ عقدة مرضيّة تزيّن لصاحبها تميّزا عن الآخرين. لا أنكر بأنني لم أكن لأتخلّص من تلك المصيبة إلا بشقّ الأنفس. ولا أنكر كذلك أنّ ثرائي المفاجئ والسّريع هو بيت الدّاء. للمال سلطان متجبّر أذرعه طويلة ونفوذه قاطع وسرعته أذهل ممّا يُتوقّع. منذ اندلاع الثورة وعند اختلاط الحابل بالنّابل جرّبت مشروعًا شمل تصدير المواد الغذائية إلى قطر شقيق فكانت مرابيحه تفوق الخيال. أعترف وليس في ذلك خجل بأنّي كنت السّبب الأوّل والمباشر في ارتفاع أسعار بعض المواد وبلوغها حدّ الجنون. ثروة تكدّست في وقت وجيز منها ماهو مُودع ببعض البنوك. ومنها ماهو مخفيّ في خزائن لا تفتح بسهولة. يُنادونني “بإمبراطور التّهريب” ولهم الحق في ذلك لأنّني ورّدت مئات السيّارات والشّاحنات من ذلك القطر وتاجرت في بيع قطعها. ولا تسَلْ عن تضاعف أرباحي وتحوّلي إلى “ملياردير” كغيري من أثرياء هذا الكون. أقصوصة بدأت بفكرة وسرعان ما تغيّرت لتصبح تحدّيا يستمدّ استماتته في الرغبة بأن أحتلّ المرتبة الأولى بين الأثرياء. ستّ سنوات كانت كافية لأملك عشرات المليارات وأغزو أجمل مناطق العالم السّياحيّة وأنفق أموالاً لا تُحصَى ولا تعدّ للتّرفيه والتّسلية. كل ذلك المرح الذي عشته محلّقا كعقاب من دولة إلى أخرى ينتهي في لمح البصر بسبب تعرّضي لجلطة دماغيّة أتت على نصفي الأيسر فشلّته وحوّلتني إلى عاجز حتّى عن الكلام.
ستّة أشهر بلياليها العفنة والطّويلة قضّيتها فوق سرير داخل قسم للإنعاش بإحدى المصحّات الخاصة. لقد تداول على مداواتي أمهر الأطباء وحوّلوا جسدي النحيف إلى حقل تجارب واكتفوا بتحرير تقاريرهم الطبيّة بعدما يئسوا من إخراجي من الغيبوبة التي سقطت في دهاليزها. كانت غيبوبة من نوع خاصّ أسرح من خلالها في عالم خياليّ لا يَمتّ إلى واقعي بأيّة صلة وأحيانًا تسمح لي بالعودة إلى العالم الحسّي الذي أعرف. كنت أحيانًا أدرك ما يحيط بي وما يطبخه الأطبّاء أو حتّى الممرّضون لي. لكنّني كنت عاجزا عن إبداء الرأي. كنت آنذاك على يقين بأنّ ما أرغب في تبليغه لن يستطيع مغادرة حنجرتي مهما حاولت. لقد افتقدت القدرة عن الكلام اثر صدمة عنيفة تعرّضت إليها بعدما تحيّل عليّ مدير بنك وسرق منّي ثلاثين مليارًا قبل أن يلوذ بالفرار خارج حدود البلاد. لم أتحمّل خسارة ذلك المبلغ رغم يقيني بأنّ ما كسبته بطرق ملتوية لابدّ وأن يُخسَر أو يُنزع منّي وذاك قانون اللّعبة.
عالم غريب أعيش أطواره تتشكّل فيه أحيانًا صُوَر قاتمة تتفّسح بي في ثنايا ليست لها بداية ولا نهاية. كان يُخيّل إليّ أحيانًا أنّني أغوصُ في أقبية سَرمديّة يكتنفها الغموض وتملؤها الوحشة وتتكسّر على بوّاباتها أجنحة الصّمت الرّهيب. عالم تقبض فيه الأنفس وتترهّل في خضمّه أغلب الحواس فتشعر وكأنّك منقاد نحو مَصير مجهول.
مازلت أذكر ساعة وصولي إلى قسم الإنعاش حتّى لحظة إخراجي منه بعد إصرار ثلاثة أطباء على وجوب مغادرته. وَسبب ذلك لا يفسّره غير اقتراب مَوعد رحيلي عن هذه الحياة. متّ سريريًّا ولم يبق لي غير بضع ساعات لأوّدع هذا الوجود الودَاع الذي ستمرّ به كل الكائنات. لقد سمعت أحد الأطباء يؤكّد استحالة شفائي وكان ينصح كذلك بإنهاء حياتي رأفة بحالي وتجنّبا لطول العذاب الذي مررت به. أحيانًا يمرّ المرء باختبار صعب تقاس فيه قدرته على التحمّل والصّبر. ويمكن اعتباري أحد هؤلاء لأنّني قاومت بأقصى ما لديّ كي لا أموت. لم ينقطع لساني عن الدّعاء لربّ كريم وسعت رحمته كل شيء. لم أخف لحظة واحدة من الرّحيل لأنني على يقين بأن منسوب حسناتي يتجاوز بفارق كبير منسوب ذنوبي وسيّئاتي وبأنّ رحمة ربّي لا حدود لها. إن أشدّ ما يؤلمني أو يحزنني حقًّا هو لوعة الفراق. لقد حزّ في قلبي عدم رؤية فلذات كبدي الذين غابوا عنّي كل هذه الفترة التي أقمت فيها بقسم الإنعاش. غادرنا المصحة صباحا ولأول مرة تقع عيناي على أفراد أسرتي بعد ستّة أشهر أو أكثر.
كانت نظراتهم إليّ مسترابة وكأنهم تصوّروا نهاية بعكس ما يشاهدون. غابت الإبتسامة والفرحة عن وجوههم ربّما لأنهم على يقين بأنّ السّاعات القليلة المقبلة سوف تحسم كلّ شيء لكن ما بدر عنهم أصابني بخيبة. كنت أنتظر لوعةً ترسم على الوجوه. كنت أتخيّل حسرة تبرزها دموع أو يصوّرها حزن. لم يعد ذلك غريبًا فلربما يكونون على أحرّ من الجمر لقسمة إرث لطالما قسّموه أو خطّطوا لقسمته. ازدحمت العبارات داخل شفتيّ وداخلني شعور بالقدرة على الكلام. لا لست أبكم وأستطيع التّحدث كسائر خلق الله. إنّي أستشعر كذلك قدرة رهيبة على تحريك نصفي الأيسر. يا إلهي ما أعجب هذه الحياة وما أكرمك. هممت بالتكلّم لأتأكّد من صحّة ما حصل بداخلي لكنّني خيّرت لعب دور الأبكم لأختبر صدق مشاعر كلّ أفراد العائلة. أغمضت عينيّ ومثّلت دور النّائم وأرهفت السّمع لأحلّل ما سيقولونه. تنهّد ابني الأكبر “أيوب” وقال:
ـ لقد أكّد لي طبيبه المباشر بأنّ حياته سوف تتوقّف في غضون سويعات قليلة فلنستعدّ لهذا الحدث أحسن استعداد. نريدها جنازة مهيبة أشبه بما نراه في جنائز الزّعماء. جنازة تليق بمكانته. كان أبي على علاقة ودّية مع بعض الشّخصيات الهامّة في البلاد وسوف يحضرون حين نزفّ لهم خبر موته.
وتقاطع ابنتي “علّيسة” أخاها فتقول:
ـــ استعمالك لعبارة ‘نزفّ’ تكشف فرحتك برحيله. ألهذا الحدّ بلغت أطماعك منتهاها لتستعجل موته؟ اتّق الله فلربّما نموت قبله. كَذب الأطبّاء ولو صدقوا. لا يحقّ لأي كان أن يحدّد مصير أيّ مريض مهما بلغ من العلوم مكانة ونبوغا.
وتعقب شقيقة “عليسة” التّوأم “شيماء” فتقول:
ـــ لقد نفِد صبرنا وجفّت الدموع في مآقينا ولم نعد نعرف أن ندعو له بالشّفاء أم نتمنّى له ميتة رحيمة نقطع بعدها مع العذاب والألم.