وحيد اللجمي أستاذ الجماليات و فلسفة الفن السيميولوجية بالجامعة التونسية
انتفض من ذكرياته تلك، لم يبارح المكان، لاتزال يده على جيبه تتلمس تلك الأوراق التي تحمل ترخيص نقل رفاة والديه من المقبرة، كانت زيارته إلى المقبرة في ذلك اليوم حيث التقى بتلك السيدة الغريبة الأطوار مختلفة عن زيارته في يومه هذا، فقد يعيش اليوم نفس الأحداث التي عاشتها تلك السيدة، سوف يقوم بنقل رفات والديه.
لقد استعدّ إلى هذا اليوم أحسن استعداد، اتفق مع أخيه الأكبر وابن أخته الكبرى منذ مدة على أن يتواجدوا جميعا للقيام بهذه المهمّة التي لا شك أنها ستكون ثقيلة على كاهله كثقل دفنهما منذ سنوات خلت، وقد يكون الأمر أكثر ألما.
اشترى منذ أيام قطعتين جديدتين من القماش الأبيض الجميل، تجوّل في السوق القديم طويلا وهو يبحث حن أحسن الأقمشة وأنقاها، تحدّث مع الكثير من الباعة، لم يكن يروق له أسئلتهم وتدخلهم فيما لا يعنيهم، كان كلما طلب شيئا من هؤلاء الباعة إلا وتهاطلت عليه أسئلتهم الساذجة والمسقطة، لم يكن ليهتمّ كثيرا بتلك الأسئلة، ما كان يهمه هو أن يكون لديه ذلك القماش، لم يكن الخيّاط مختلفا في أسئلته عن بائعي الأقمشة، أخاط له ذلك القماش بعد أن طلب منه أن يفعل ذلك بكل إتقان إلى أن أصبح قابلا ليحمل الأجساد أو ما تبقى منها.
نظر إلى ذلك المكان الفسيح الذي من حوله، رجال الفؤوس ينتقلون بين القبور بخفّة ورشاقة وكأنهم اعتادوا على هذا العمل منذ مدة طويلة، يقفزون بأجسادهم في رقصة غريبة على قبور خاوية لا يجنون منها شيئا، لا ينظرون إليها ولا يتوقفّون على أطلالها، يحومون كالعقبان على قبور تستعدّ لتلفظ أجسادها، مستبشرون بما سيأتيهم من تلك القبور من كسب وفير، الفؤوس ترتفع وتهوي لا تفرّق عند سقوطها بين الصخور وبين الهياكل العظمية المتحجرة، أطفال هنا وهناك، يسرعون فرادى حينا ومع أقاربهم حينا آخر، ينظرون بعيون حائرة وعيون فازعة مرتعبة.
لا يزال يتأمل تلك المشاهد المتواترة، يستمع إلى تلك الأصوات المتقطّعة المبعثرة، هنا وهناك، تختلط بما تبقى من صور رمادية باهتة لقصّته مع تلك السيدة ذات الأطوار في ذلك اليوم الغريب، نساء ورجال، أطفال يافعون، أصوات مرتفعة ومنخفضة، هدوء وضجيج ، تتكتل الأحداث بهدوء داخل المكان الفسيح وكأنها تنبئ بيوم عظيم.
ذات النسائم وذات الأشجار، ذات الأوراق اليابسة، لم يتغير شيء في ذلك المكان، فقط هي الفوضى التي تزداد انتشارا، تذكّر صوت الموسيقى الذي لم يكن حاضرا كما كان في ذلك اليوم، نظر حوله لعله يجد تلك المرأة الغريبة، إن وجدها فقد تعود تلك الموسيقى من جديد، ولكن المقبرة مزدحمة على غير عادتها، وجوه مبيضّة ووجوه مسودّة، وجوه تصببت عرقا، ووجوه تلبدت غبارا، وكأن الأرض قد تبدلت غير الأرض وماج البعض في البعض، وأعرض البعض عن البعض.
إنه ليوم من أيام البعث، أفواج من الرجال يتنقّلون داخل ممرات ضيقة متشعبة، أعشاب طفيليّة عملاقة متداخلة تعيق حركتهم، أكوام من الرمال والحجارة وما تبقى من القبور التي كشفت عن أحشائها، أحجارها المتكسّرة في كل مكان، مكدّسة هنا وهناك، يقترب البعض من البعض، خطواتهم صفا لا يحيدون، ولا تسمع منهم إلا همسا مستكينا.
لقد كانت المقبرة في أول عهده بها أكثر أناقة وأكثر جمالا مما هي عليه في ذلك اليوم، تحوّل كل شيء بعد هذه السنين الطويلة إلى قبح فظيع، كثيرا ما كان يدرك ما في المقابر من جمال، وكثيرا ما كان يتحسّس ذلك الجمال وهو يعتكف بنفسه بين قبري أمه وأبيه، هدوء لا يشبه الهدوء الذي نخابره كل يوم، وبياض يختلف عن ذلك الذي يعرفه كل الناس، وفراغ يغمر الذهن نقاء وصفاء، لم يكن يرى وقتها سوى لوحة منغمسة في ألوان فاتحة باهتة راقصة متمايلة، كانت تختلط مع ما كان يشعر به داخل نفسه من أحاسيس مؤلمة، غارقة في غربة ذلك العالم المجهول الذي لم يكن يعرفه من قبل سوى كزائر أو كمقرئ أيام الخميس وأيام العيد.
تحوّل كل شيء في ذلك المكان، تغيرت الألوان وتبدّد الهدوء، طاف ببصره بين الحشود يبحث عن أخيه وابن أخته الشاب الوسيم، لقد أصبح شابا يافعا، يذكره وهو رضيع بين يديه، أحبه كثيرا، كان يشعر دائما أنه ابنه المدلل، يذكر أكثر الفترات تلازما بينهما عندما تأتي به أمه لتتركه معه بالبيت قبل أن تغادر إلى عملها مسرعة لا تلوى على شيء، يتلازمان لأوقات طويلة، يأخذه أينما ذهب ويتركه أينما مكث، تتراقص روحاهما بين جنبات الطبيعة المطلقة، كثيرا ما جلسا معا ينظران إلى صفاء البحر العجيب، سماء زرقاء، وبحر هادئ أنيق، يميل بأمواجهه الذهبية إلى الخضرة الفاتحة، كتاب بين يديه، وأفكار تتطاير هنا وهناك، وعشق خجول يطرق باب قلبه من حين لآخر، يحمله الحنين كلما نظر إلى ذلك الخيط الرقيق، هناك عند الأفق البعيد النائم على فراش من الماء البارد المتلألئ، هناك أين يكون اللقاء والفرقان، سر ذلك الكون الذي يعيش، وجود كونه الفراق، كل ما فيه فراق، وكل ما يدور حوله فراق، يردد بهمسات حزينة لا تسمعها إلا أذناه :
- إننا نوجد من أجل الفراق، إننا فراق دون أن نعلم بأن الفراق هو أصل كل شيء..
نظر بين الحشود، بعيدا هناك، امرأة نحيفة تقف مع ابن أخته، يتحركان بخفة بين القبور وكأنهما شبحان محلّقان، بدا وكأنهما يبحثان عن شيء ما، يقتربان من بعضهما البعض، يتبادلان الهمسات ثم يتحركان من جديد بين الأحراش وأكوام من الحجارة وكثبان من الرمال للبحث من جديد.
لم ينتظر طويلا حتى اقتربا منه، وفوجئ وهو يكتشف أن المرأة التي تصاحب ابن أخته الكبرى هي أخته التي تصغره بقليل، اختلطت عليه الأفكار وتداخلت في ذاكرته الصور، أسرع إليها ودون مقدمات سألها :
- ماذا تفعلين في هذا المكان..؟
اقتربت منـــه وكأنها تريــد أن تلقي التحيـــة، إلا أنها قالت بصوت خافت حزيــن :
- هل نسيت رضيعي الذي فقدته منذ عشرين عاما..؟
تتوقف عن الكلام، تنظر حولها، تتأمل شيئا ما هناك، تبعث بنظرة متفحّصة إلى مكان بعيد، ثم تستدرك قائلة :
- لقد أضعت مكان قبره.. منعتني كل هذه الفوضى من العثور على مكان دفنه..
تنقطع عن الكلام من جديد، تتطلّع إلى وجهه وقد بدت عليها حيرة وحزن شديدان وقالت :
- لقد نسيت أن أسلّم عليك.. هل أنت بخير يا أخي .. هل كل شيء على ما يرام..؟ منذ مدة طويلة لم نلتق..
نظر إليها وكأنه يرها للمرة الأولى في حياته، تمعّن بها بعمق، نظر إلى وجهها الصغير الذي بدا أنه يتجعد، يغزو الشيب رأسها العاري، يبدو أنها حاولت محو علامات الشيب ببعض الألوان والأصباغ، جسم نحيف كما هو عهده به، نظر إلى ابن أخته ولم يكن ببعيد عنهما، يستمع إلى هذا الحديث يشرئب برأسه وكأنه يريد أن ينصت إلى ما يدور بينهما أو كأنه يريد أن يسأل عن شيء ما..
طأطأ رأسه متأملا الفوضى التي تحت قدميه، في حين بدت الكلمات التي تتردد على فمها بصوت منخفض تتلاشى وتبتعد، يسمعها من جديد بصوت متقطع ناعم حزين :
- هل أنت بخير يا أخي.. ؟
صدى الكلمات الفاترة يتردد في أذنيه مرارا وتكرارا، إلى أن تفقد كل معانيها وتذوب داخل ضباب من الذكريات البعيدة.
- هل أنت .. هل أنت .. ؟ ؟
تتلاشى كل الكلمات، لا يبقى من كلامها سوى بعض من الحروف الغامضة.
ضحكات مرتفعة صاخبة تقرع مسامعه، أصوات صبية ترتفع من كل مكان، صوت أمه يعلو من داخل المنزل وهي تصيح :
- ألا تلعبان بهدوء.. !!
تعلو الضحكات أكثر فأكثر، يشتدّ الصياح، ويعلو صوت الأم من جديد، إنها اللعبة المفضّلة التي كانا يلعبانها معا بالحديقة الصغيرة للمنزل، يلهثان وراء الكرة وهي تتطاير من مكان إلى مكان، يعبثان بكل شيء يعترضهما، صيحات مرتفعة تعلن عن الانتصار تنبعث في كل مرة من حنجرة أحدهما، تمسكه أخته من ملابسه بقوة لتطرحه أرضا غير عابئة بما قد يحدث له من خطر السقوط.
يصيح صيحات طفولية قوية تتخللها ضحكات تخترق أرجاء المنزل، صوت أمه يعلو من داخل المنزل مرة أخرى ليعلن انتهاء الفسحة، ضحكات تتعالى وتتعالى غير عابئة بصوت الأم وهي تقترب من المكان، ويعيد تمثيل مشهد السقوط الذي راق له، يقترب صوت الأم أكثر فأكثر، ويكتم كل منهما تلك الضحكات المجنونة، ويهدأ الصخب، وتتلاشى الصيحات، يأتيه صوت أخته من بعيد، يجذبه من عالم الذكريات الغارقة في القدم، وتقرع مسامعه كلماتها وهي تقول :
- هل أنت تسمعني.. ؟ هل أنت بخير يا أخي ..؟ هل أنت تسمعني.. ؟
رفع رأسه بهدوء، وغابت من أمامه كل تلك المشاهد الطفولية التي حملته بعيدا، في أعماق الزمان وفي غياهب المكان، ارتسمت على فمه ابتسامة رقيقة وقال :
- كما ترين يا أختاه.. أخذتنا الحياة.. أثقلتنا المتاعب والهموم..
صمت يخيم على المكان لا يعرف مقدار طوله ثم يردف قائلا :
- أنا لم أنس رضيعك الذي خطفته المنيّة.. ربما هو قد أدرك ما في هذه الدنيا من مصاعب وآلام وأحزان.. أخاله قد اختار أقصر الطرق رغم أنها أكثرها ألما ووجعا.. لقد اختار الفراق..
لم تنبس ببنت شفة، علامات الحزن والحيرة على وجهها، يقول لها وهو ينظر مليا إلى وجهها الحزين :
- هل أعددت الوثائق اللازمة لنقله إلى مقبرة جديدة.. ؟
- لا.. لا.. لم أفعل ذلك.. أنا لم أكن أعلم بأنه سيتم إعدام هذه المقبرة ونقل موتاها إلى مكان آخر إلا مؤخرا ..
يشحب وجهها أكثر وأكثر وهي تردد :
- ولكننا لم نجد مكانه.. لقد ضاع قبره بين القبور المبعثرة.. حتى العلامات التي كانت موجودة على قبره تكاد تسقط من ذاكرتي.. لن أتركه يندثر مع القبور المنسيّة.. سوف أجده مهما كان الثمن..
تحركت وهي تردد تلك الكلمات، وتحرك معها ابن أخته متحمسا، متجهان إلى نفس المكان الذي كانت تؤكد أنه مكان دفنه..
يسير خلفهما بهدوء وحذر خيفة أن يتعثر أو أن يسقط في إحدى تلك الحفر المنتشرة يمينا وشمالا، كلما تقدم إلا وازدادت الفوضى وتكاثرت من حوله القبور المكشوفة، صخور متراكمة وكأن بركانا هائجا قد عبث بها، بقايا عظام كالهشيم متناثرة هنا وهناك بين الصخور وداخل الحفر.
تتثاقل ساقاه وهو يمرّ على القبور، قبور قوم كانت عظامها مكسوة لحما فأصبحت كالصخور ينخرها الصقيع، كانت لها أسماء وصفات، قصص وحكايات، لو أن أحدا يخبره بتلك الأسماء لصنع منها تاريخا عظيما أو قد يكون لها خالقا من جديد.
يلفه النسيان من كل مكان، النسيان هو ذلك المارد الذي يغلّف كل كيانه الغريب، كثيرا ما كان يعشقه ويدرك أنه قوام ذلك الوجود، جميل أن يعيش النسيان وجميل ألا يتذكر تلك المشاهد كل ما تقدم في المكان، ولكنه مارد حزين يمنعه من العودة إلى ذات المكان، أن يكرر الوجود في ذات المكان وذات الزمان، فسخ فظيع للذاكرة ولكل الأفكار المنعتقة.
يغيب في كل تلك الأفكار وهو لايزال يتّبع خطى أخته المتثاقلة، يشعر أنه تائه وسط كل ذلك الدمار الذي يحيط به من كل جانب، يترنّح متقدما، يشعر برغبة جامحة في الغياب عن ذلك المكان ولو لوقت قصير.
روائح غريبة تنبعث من هنا وهناك، مشاهد أكثر قتامة تنتشر في كل ركن من أركان المقبرة، تأتيه كلماتها الحزينة، باهتة يائسة، تترد على شفتيها وهي تلتفت يمينا وشمالا باحثة عن مكان القبر بعينين ذابلتين، تنظر إليه وكأنها تطلب شيئا ما أو أنها تتوسل الخلاص، تردد بصوت مرتعش :
- لقد ضاع الولد.. لقد ضاع الولد.. ضاع حيا وضاع ميتا..
يتحامل على نفسه وهو يسمع تلك الكلمات المثقّلة بالجروح، الممزّقة لكيانه العميق، يلملم أحزانه التي بدت تظهر أكثر وأكثر على وجهه الشاحب، يحاول أن يرتّب كلماته بإتقان فريد وكأنه سيقدم درسا جديدا لطلبته في الكلية، تخنقه العبرات، وتثقل في فمه الحروف، أي مصدر للبؤس هذا، وأي حزن يواري النفوس العصيّة قهرا، يقول وقد بدا مرتبكا :
- ألا يمكن أن يكون هنا .. ؟
يشير بيده إلى الفراغ، ثم يعيد الكرة وقد تلعثمت الحروف والكلمات على لسانه :
- بل هناك.. هناك.. قد يكون هناك .. ؟
ويحوّل نظره إلى مكان آخر، وتشير يده إلى قبور لم يبق منها سوى الأطلال.
- سوف تجدينه حتما.. كفاك حيرة.. لن نخرج من هذا المكان إلا ومعك رضيعك المهاجر..
يا الله، ما هذا الكلام الذي يقول، هو يعلم جيدا أنها لن تحمله معها حتى وإن وجدته، ستنتزعه حتما من ذلك المكان انتزاعا، ولكنها ستضعه في مكان آخر قد يكون أكثر وقعا على نفسها التائهة الحزينة.
ينظر هناك، ليس ببعيد عن المكان، عند قبري والديه، يلمح أخاه الأكبر واقفا دون حراك، شعر أنه كان يتابع تحركاتهم ويراقب بعينيه رحلة البحث تلك، يترك طريقه الذي اتخذه وراء أخته، ينطلق إليه وقد تسارعت خطاه، يقترب منه ليحدثه بصوت خافت :
- إنها لم تجد قبر ابنها.. المسكينة.. إنها تتألم حقا.. لقد ضاع القبر.. وضاع من فيه..
يحرّك الأخ رأسه هادئا وكأنه يجمع أفكاره المشتتة ثم يقول :
- لقد كان يحتضر.. عندما دخلت عليه آخر مرة إلى غرفته بالمستشفى.. كان محدقا بعينه إلى نافذة مطلة على ساحة خارجية.. لا يلتفت إلى أحد.. لا يشعر بأحد.. أو هو الذي أراد ذلك.. نور ساطع يخترق النافذة ليرسم على وجهه الشاحب بعض من العلامات المبهمة..
يلزم الصمت برهة ثم يقول بصوت حزين :
- أخاله كان ينتظر أحدا ما.. لقد مات وهو يحدّق في تلك النافذة.. يحدّق في ذلك النور الغريب القادم من بعيد..
أتم كلماته الحزينة تلك ويخيم على المكان صمت رهيب.
خيّل إليه وكأن الصمت يخيّم على المقبرة بكاملها ليغرق كل شيء في سبات مرير، سكون غريب يسكن السماء والأرض، لحظات قليلة تمرّ وكأنها الدهر، يشق ذلك الصمت فجأة تراتيل عجوز يجر ساقيه جرا وهو يتكئ على عصا خشبية معوجّة، وجه شاحب متجعد، ملابس رثة عبثت بها قساوة السنين، حذاء لا يشبه الأحذية في شيء، تظهر بعض من أصابع قدميه، مسودة متسخة وقد طالت أظافرها حتى أصبحت أكثر طولا من أصابعه، شعر أشعث تدلى على وجهه النحيف، التصق بلحية كثيفة اشتعلت شيبا فغطت كامل وجهه ولم تبقي إلا بعض المساحات الصغيرة المعتمة، أنغام ناشزة وصوت أجش، يتغنى حينا ويرتّل حينا آخر وينوح أحيانا :
- إذا زلزلت الأرض زلزالها.. وأخرجت الأرض أثقالها..
يلفّه الصمت برهة وهو يجهد نفسه ليسير متعثرا، يخطو نحو وجهة غير محددة، ويعود من جديد بصوت مرتفع وبنبرة أكثر حماسا :
- إذا زلزلت الأرض زلزالها.. وأخرجت الأرض أثقالها.. وقال الإنسان مالها..
بقي يردد تلك الكلمات مرّات ومرّات وهو يجرّ رجليه جرّا، جسده النحيف الذابل وقد تعرت بعض من أجزائه، يتمايل على أنغام كلماته، ينظر إلى الحفر التي سدّت عليه الطريق، تحاصره من كل مكان، ينظر حائرا إلى شيء ما تارة ويبحث عن جهة قد تكون أكثر أمنا من تلك المتاهة المرعبة التي تحاصره من كل مكان تارة أخرى، يجد لنفسه مخرجا ويبتعد في هدوء عن المكان، يغيب عن الأنظار وسط الحشود، لا يسمع منه سوى همسات متكررة، متعثرة متقطّعة :
- يا أيتها النفس المطمئنة .. يا أيتها النفس..
تتقاذف الرياح ما بقي عالقا من تلك الكلمات المتكسّرة وتنشر ما سقط من حروفها مبعثرا بين القبور والحفر وعلى جوانب الصخور الباردة، تتقطع تلك الحروف المرهقة وتغدو هباء منثورا، وتهوي كل الصور في قرار مكين، تذوب المشاهد، ويحجب جسده المتباعد نور الشمس الساطع القادم من مكان بعيد، يتلاشى وسط تلك الكتل العملاقة من الأضواء المنبعثة من أقصى الشرق حيث كل شيء كان متوهجا.
يحوّل عينيه نحو القبرين المتجاورين ثم ينظر إلى أخيه مليا، يجهد نفسه ليقول أي شيء، ولكنه لا يجد ما يقول، فارقته العبارات وهجرته الكلمات وسقطت من قاموسه الحروف.
بقي صامتا متأملا القبرين، يرفع بصره بإعياء شديد ليبحث من جديد عن ذلك العجوز وقد ذاب جسده النحيف بين طيات السراب، يقترب منه أخوه ويهمس له :
- ماذا ستفعل في مسألة ابنها إن لم تجده.. ؟ وإن وجدته كيف ستقوم بنقله وهي لا تملك ترخيصا لفعل ذلك..؟ وإن استطاعت فعل ذلك فأي مقبرة ستقبل به دون أية وثيقة قانونية..؟
شعر وهو يستمع إلى تلك العبارات المتراصّة، المتسارعة المتراكمة، بأن مأساة أخته ستتفاقم، ستجعل منها كتلة من الآلام والأحزان، يبدو أنه لم يعد هناك مجال ليطلّ ابنها من تحت التراب، لن يرى هذه المشاهد المرعبة التي حلّت بالمكان، لن يذهب إلى بيته الجديد ولن تعيش أمه موتته الجديدة.
اقترب أكثر وأكثر من أخيه، أراد أن يقول له بأن الألم عميق، وأن فراقها لرضيعها محزن ولابد من إيجاد حل حتى لا تتفاقم مأساتها ويشتد حزنها.
لم ينطق بعد بتلك الكلمات الحائرة الضائعة حتى طفق أخاه يقول وهو ينظر إلى قبري والديه :
- لقد ذاق من العذاب الكثير.. لم ينج من المرض الذي أصابه.. لقد كنت أعرف أنه لن ينجو من الموت المحتم.. لقد ضحى الكثير من أجلنا.. ولكنه لم يهنأ بالراحة..
بدت على وجهه حيرة عميقة وهو يستمع إلى كلمات أخيه، اختلطت عليه العبارات والمعاني ولم يعد يدرك عمن يتحدث، يبدو أنه لم يعد يدرك ما يجب عليه إدراكه ولم يعد يميّز في تلك الأجواء الغريبة الكثير من الأشياء.
نظر إلى أخيه مليا وهو يستعيد وصفه لحادثة الموت التي لم يعد يفهم منها شيئا، لقد ألغزت عليه الأحداث وتداخلت الذكريات، يدنو من أخيه وهو يتساءل مستغربا :
- عمن تتحدث يا أخي..؟
يجببه وكأنه يستنكر سؤاله ذاك :
- أنا أتحدث عن والدك.. ألا تعلم ما عاناه..؟ ألم تكن شاهدا على تلك المأساة..؟ ألم تر آلامه وعذاباته وأحزانه..؟
شعر وهو يستمع إلى تلك الكلمات وكأن شيئا ما يدفعه بقوة وعنف نحو ذلك الزمان البعيد وذلك المكان الحزين، شعر بأنه يسقط في قرار مكين، ظلمة تخترقه من الداخل، تمزق ما تبقى منه من إنسان، يترنّح وسط الظلمة الحالكة ويبحث عن مستقرّ له وسط الفراق، هذا الكائن الغريب المدمّر الذي هو الفراق، يتحامل على نفسه ويجذب كلماته من القرار بخيط رقيق من الذكريات :
- نعم أتذكر ذلك جيدا.. رغم أنني أخاف تلك الذكريات.. إنني أعيشها الآن رغم ضياع زمانها الحزين الغريب..
ينظر إلى قبر أبيه، يحدّق به مليا، يقرأ من جديد تلك الكلمات وذلك التاريخ الذي حفر على سطح الرخام، تاريخ بكامله يحفر ليصبح مجرد أرقام وحروف، آخر كتاب من كتب الدنيا كتب على قبره، عند رأسه، هو خطّه المحفور على هذا الرخام الذي كان في يوم من الأيام ناصع البياض، تذّكر كيف خطّ الحروف، كيف حفرها خطوطا ونقاطا داخل الصخرة الناصعة، كيف صبغ حروفها وأرقامها بالسواد.
يقترب من قطعة الرخام وقد تغيّر لونها إلى أصفر ذابل، يمد يده المرتعشة ليتلمّسها، بدأ يحرك أصابعه وكأنه يرسم من جديد تلك الحروف التي تغيّر لونها وذهب بريقها، أعشاب صغيرة، خضراء وصفراء ذابلة تنبت داخل الشقوق الصغيرة المنتشرة بين الحروف والأرقام، يشعر بيده وهي تخطّ تلك الكلمات الأخيرة وكأنه يضع فيها روحه التائهة المعذبة.
أنهكته تلك الحروف وتلك الأرقام البالية المرسومة على ذلك الرخام بعناية وإتقان فرمت بروحه المعذبة في ذكريات قديمة قدم المرارة التي يعيشها في كل حين، أغمض عينيه لعلّه يستريح من تلك الصور، نفق طويل يحمله عنوة إلى هناك، إلى الزمن البعيد،
يد مرتعشة متجعدة ذابلة، برز هيكلها العظمي من تحت الجلد، تقع في يده فجأة، تتلمّس أصابعه الناعمة، تغلق بقبضتها الفاترة على يده الصغيرة، تريد أن تكون قويّة دون جدوى، ذابلة منهكة، يسمع صوت الأب المسكين يغمغم ببعض من الحروف الغامضة، حروف لا تشبه الحروف في شيء، صيحات فاترة تشبه النحيب، يضغط الأب برفق على يده الصغيرة يتلمّسها، وكأنه يريد أن يتلمّس البعض من الأمان والإطمئنان.
يستيقظ أو يكاد، مرتعدا خائفا، لا يقدر على التمييز بين الواقع والحلم، يدرك بعد جهد أنه الواقع المرير، يهمس لأبيه بصوت رقيق :
- لا تخف يا أبي.. أنا هنا.. أنا بجانب سريرك، هذه يدي في يدك وهذا أنا بجانبك..
ينتظر قليلا وكأنه ينتظر ردة فعل أبيه، لكن لا شيء سوى غمغمات فصمت، يعيد ترتيب كلماته المرتبكة ثم يقول :
- لا تخف يا أبي.. أنت بالبيت ولست بالمستشفى.. أنا هنا.. أنا بجانبك..
يطمئن الأب ويفتح قبضة يده برفق، يعود لنوم متقطع ممزق، أو هو يخيل إليه أنه يعود.
ذلك هو حاله مع أبيه كل ليلة، أو ليلة بعد ليلة لمّا كان يغادر المستشفى، لقد فقد صوته منذ أن دخل أول مرة إلى المستشفى العمومي بالمدينة، وبقي على تلك الحال إلى أن فارق الحياة، لم يكن المرض هو الشيء الوحيد الذي يؤرقه ويؤرق العائلة، ولكن فقدانه القدرة على التواصل والكلام فجأة كان له الأثر الكبير على الجميع.
أمر محير حقا، لم يكن لديهم أي تفسير لما أصابه، ولم يجدوا لدى الأطباء إجابة مقنعة، لقد أصبح يعيش إلى جانب مرضه حالة من الخوف، خوف كبير كخوف الأطفال من الغول والعنقاء.
الزمن الذي قضاه بالمستشفى بعد حصوله على التقاعد أكثر بكثير من الزمن الذي قضاه بالبيت مع عائلته، قد يكون ذلك سببا من أسباب ذلك الخوف العميق الذي يعيشه كل ليلة، لقد مات أمام مرآه الكثيرون، وقضى ليال كثيرة مع الأموات، وجرّب الموت مرات ومرات.
ينتبه من جديد إلى صوت أخيه وهو لايزال يتحدث بصوت خافت هادئ كئيب، يأتيه ليجذبه من أعماق الزمان الحزين وليعيده إلى واقعه المرير، يحوّله من مكان إلى مكان :
- لقد عمل بجد في تلك الشركة التي لوّثت دمه ورئتيه حتى أصابه ذلك المرض الخبيث.. لم تتسنى له الفرصة ليعيش مع العائلة كما كان قد وعدنا يوم أن أحيل على شرف المهنة..
يلازم الأخ الصمت فجأة، منقطعا عن كل حديث، يتنفس بملء رأيته وكأنه يجد صعوبة في إخراج كلماته التي بدت متعبة مرهقة، ثم يقول :
- لقد بكى طويلا، كطفل صغير يفقد أمه.. لا أحد يدري سبب بكائه الحارق في ذلك اليوم، هل كان بسبب أسفه الكبير على انتهاء دوره كعامل.. أم أنه بكى لأنه كان يعلم أن أيّامه أصبحت معدودة في الحياة..؟
إنه يتذكر جيدا ذلك المشهد المريع، يجلس الأب على أريكته المعتادة، يضع رأسه بين يديه، دموع تنزل في صمت فظيع، يتماسك وهو يخفي عينيه بأصابعه المرهقة، الدموع تسيل على خديه، ترسم جروحا غائرة مؤلمة على كامل وجهه، يتماسك إلى أن تنهار كل ما لديه من قوة، يخرّ باكيا بحرقة مدمّرة، حرقة ذلك اليوم وهو يغادر عمله دون رجعة، لن يعود من الغد، لن ينهض باكرا كما كان يفعل كل يوم، لن يحلق لحيته ككل صباح وهو يستمع إلى صوت فيروز تتغنى بألحان الخلود، لن يرى أصدقاءه، لن يشاركهم الأفراح والأتراح، لن يقاسمهم الطعام والشراب، لن ينزل إلى دهاليز الموت ليصلح تلك الآلات القاتلة، لن يكون كما كان، لن يعود ما كان، إنه اليوم الأخير، كان يوما احتفاليا كما ذكر ذلك، يحتفلون بالوصول إلى عتبة التقاعد، احتفلوا به وهو يدرك أنه الاحتفال الأخير، بكى بحرقة المفارق، كان يعلم كما علم كل من عاش هذه التجرية المريرة أن الحياة تتوقف هناك، عند الخروج من العمل والركون إلى البيت، لا شيء يبشر بحياة أخرى بعد الانقطاع عن العمل.
صمت يلف المكان، يخترقه صياح خافت لابن أخته وهو يسرع خطاه مرددا وقد علت وجهه سعادة غريبة :
- لقد وجدناه.. لقد وجدنا قبر الصبي… أخيرا وجدناه.. إنه هناك بين الأحراش.. هناك أين تجلس أمه.. في ذلك المكان..
كان سعيدا وهو يخبر الجميع بذلك، سعادة تضاهي سعادة العثور على الأحياء وليس العثور على أموات غيّبتهم الموت لزمن طويل.
تأمل تلك السعادة الغريبة المرسومة على وجه الشاب الوسيم، قد تكون هي ذاتها السعادة التي ستدخل قلب الأم المسكينة، لقد اكتشفا أخيرا مكان القبر، أو هما اكتشفا معا ما تبقى من حجارة القبر بعد بحث مستميت.
لم يعد موت الصبي منذ زمن طويل هو أصل الألم، قد يكون الموت قد فقد مع مرور الزمن قيمته كفراق، لم يعد للموت من معنى، فقط هو اللقاء بعد ذلك الفراق الطويل الذي سيجعل من الوجود وجودا ومن الزمان أزلية وبقاء، قد يكون اللقاء مع ما تبقى من رضيعها هو مجرد لقاء مع هيكل عظمي متحجر متصقع لا روح تجمّله، لا حياة تحرّكه، لا قيمة له في هذا الوجود، ولكنه سيكون البقاء الأبدي الذي لا يأتي بعده موت، هو بقاء للذكرى داخل طيات الزمان.
الزمان، هذا الذي يقتل الموت ويقهر الفراق جميله وحزينه، هو الوحيد القادر على هزم الموت، وهو الكائن الوحيد الذي يجعل من الموت مجرد ذكرى عابرة ويجعل مما تبقى بعد ذلك أبدية لا نهاية له داخل الوجود.
تتداخل الصور في رأسه، تثقل تفكيره المشتت بين كل تلك الأحداث المتلاحقة، المتزامنة المرهقة، عرف مصدر تلك الفرحة العارمة التي غمرت قلب الشاب، وعرف عما كانا يبحثان وأدرك مقدار قيمة الخلود داخل الوجود وقيمة الإنسان داخل الزمان، هذا الذي لا يفنى ولا يموت.
نظر من جديد إلى أخته قادمة من بعيد، وجه حزين ولكنه مستبشر، ابتسامة خفيفة، متخفيّة متألمة، وجمال يعم كامل جسدها النحيف وكأن بذلك النور الغريب القادم من هناك، من ذلك المكان الفسيح، خلف تلك النافذة الصغيرة، يغمر جسدها ويحوّله إلى كتلة من شعاع ناعم رقيق، لم تعد كما كانت منذ قليل، لقد تغيّرت ملامحها الحزينة وبدا الأمل يزرع ألوانا وأشكالا تزيّن مظهرها الكئيب، تماهت تلك الألوان مع الصبائغ التي تغطي شعرها الأبيض، تتلاعب به الرياح القوية، تتمايل مع ملابسها الرمادية والسوداء التي تغطي جسدها النحيف الرشيق، تتكامل كل الصور والألوان في لوحة راقصة من الجمال الحالم، لوحة عجيبة جميلة تنعكس على ما تبقى من القبور وعلى الصخور المتكسّرة وعلى أكداس الرمال المغطاة بأعشاب مختلفة ألوانها وأشكالها.
تقترب أكثر وأكثر وهي تتخيّر الأمكنة للخلاص من الفوضى التي تحيط بها، وقع خطواتها على التراب والصخور يرتفع ويرتفع ثم يذوب داخل نبرات صوتها وهي تغمغم بكلمات متقطعة غير واضحة، تجهد نفسها لتلاحق كلماتها الضائعة، تقول مرتبكة وقد اختلطت عليها المشاعر:
– لقد وجدنا القبر.. إنه هناك.. كنت واثقة بأني لن أتركه ليتيه وسط هذه الفوضى العارمة..
ثم وكأن حزنا يتملكها فجأة، تقول وقد شحب وجهها :
– ولكن كيف لي أن أقوم بنقله..؟ لا أملك ترخيصا لفعل ذلك.. لقد فاتني هذا الأمر.. ولا أدري ماذا أفعل الآن..
تنقطع عن الكلام وتتجه إلى هناك، إلى مكان القبر وهي تردد بصوت خافت حزين :
- لن أتركه مهما كان الثمن.. سأفعل كل شيء من أجله.. لن أتركه..
تسير وهي تلتفت يمينا ويسارا يتبعها الشاب الوسيم بخطى حثيثة مسرعة، يقترب من أخيه وهو يراقبهما وهما يبتعدان، يقترب منه أكثر وأكثر ويهمس له في هدوء وقد بدت في نبرات صوته راحة وسكون :
– لقد وجدت رضيعها أخيرا.. أنا سعيد بذلك.. ولكن كيف لها أن تنقله وهي لا تملك أية وثيقة..؟ هل لها من حل في هذا الوقت الخانق..؟
ينقطع عن الحديث وينغمس في تفكير عميق، ينظر إلى شيء ما عند الأفق ثم يقول بصوت متهدج :
يبدو أن الأمر سيقف عند هذا الحد.. ستترك رضيعها في هذا المكان المهجور وإلى الأبد..