الأستاذ وحيد لجمي/ تونس
كم كانت الأيام الأولى من العودة المدرسية من كل سنة أحلى الأيام عنده وأجملها، يتزامن ذلك مع الشهر الذي ولد فيه حيث يصبح كل شيء متحولا ومتغيرا، هي العودة نحو البدايات الأولى وانطلاق في رحلة جديدة ومغامرة متجددة، كان يشعر دائما أنه يهاجر مع الطيور المهاجرة الباحثة عن ملجئ دافئ لها، كذلك كان يحلم أن يكون، وكذلك كانت مغامراته وشخصياته التي يتقمّصها وهو يقرأ قصصه الصغيرة التي كان يلهث لاقتنائها طوال الأسبوع من المكتبة الصغيرة بالمدرسة التي كان يدرس بها.
لمعت عينا الرجل وهو لا يزال يتأمل الحائط المنتصب أمامه، ارتسمت على وجهه ابتسامة عريضة وهو يتمتم بصوت يكاد أن يكون مسموعا :
– ما أجمل تلك الأيام وما أعذبها..
تذكر يوما كان يذهب إلى معلمه الذي كان يجلّه أيّما إجلال، يخشاه كثيرا ولكنه يحبه كثيرا بقدر خشيته منه، كان رجلا وقورا فارع الطول مهذّب المنظر، أنيقا في لباسه، وجه يوحي بالقوة والصلابة والشدة، شاربان قويان تخفيان بعض التجاعيد المرسومة حول فمه، كان دائما يتساءل عن سر الإعاقة التي بساقه اليمنى دون أن يجد لذلك جوابا، لم يشعر ولو ليوم واحد رغم حدة طباع هذا المعلم بالخوف منه بقدر ما كان يشعر أنه يحبه ويحترمه، قد يكون التردّد عليه وعلى ذلك المكان المغري في تلك القاعة الصغيرة بجانب مكتب المدير والتي كانت تمثل قاعة للمطالعة هو السبب الذي جعله يستأنس به ويشعر بالراحة في كل مرة يلتقي به.
لقد عرف تلك القاعة منذ سنواته الأولى بالمدرسة، قاعة تكدّست فيها كتب صغيرة الحجم وقصص وروايات متنوّعة والتي كانت تمثل في ذلك الوقت المزوّد الوحيد للتلاميذ بالقصص مقابل عشر مليمات ثمنا لاكتراء القصة الواحدة لمدة أسبوع كامل.
لقد كان هذا المعلم الوقور المسؤول عن هذه المكتبة، لقد كان يعرف وهو الصبي الغض أنه كان محبوبا من كل معلميه، لم يكن يعرف في ذلك الوقت أن وسامته وجمال روحه الطفولية هما اللذان جلبا له كل ذلك الحب، إنه يتذكر عندما كان صغيرا جدا في سنواته الأولى من تعليمه الابتدئي كم حمل بين أحضان معلميه، وكم رسموا على خدّه وعلى رأسه قبلاتهم الحنونة وكم أغدق عليه من الهدايا البسيطة الشيء الكثير، بعض من الحلوى كلما قام بالواجب على أحسن ما يرام، وبعض من قوالب الطباشير الملونة عندما يرسم رسما جميلا متناسقا على السبورة أمام بقية التلاميذ، وشيء من التصفيق الحار كلما قرأ من كتابه كلمات وجمل وتغنى بحروفها ومعانيها، كلما كبر كلما ازداد جماله وكثر اعتناؤه بنفسه، بقي دائما الطفل المدلل الأنيق وبقيت تلك العلاقة الجميلة مع معلميه وأقرانه لسنوات طويلة منذ دخوله المدرسة، لا تشوبها شائبة، إلى أن اعتقد في يوم إنه خسرها وإلى الأبد.
كان يوما حزينا كئيبا، كان يقف بباب المكتبة وهو يحمل بين يديه قصّته الصغيرة، جاء ليعيدها كما هي عادته، عندما صاح به معلمه الوقور وزمجر في وجهه وهو يطلب منه الدخول بصوت مرتفع ويهم بالجلوس على كرسيه الخشبي البالي، كان على غير عادته، غضب شديد يمتلكه، وشر لم يعهده من قبل يتطاير من عينيه، ينظر إليه بحدة ويقول بصوت غلف بقسوة مؤلمة موجعة :
– أتريد إقناعي أيها الفتى أنك تطالع في كل مرة قصة كاملة في يوم واحد..؟ هل أنت تهزأ بي أم أنك تهزأ من نفسك.. ؟ لقد اقتنيت قصتك هذه يوم أمس.. فمتى قرأتها لترجعها اليوم..؟ منذ مدة وأنت على هذه الحال أيها الصبي..
لم يتوقف المعلم عند تلك العبارات، بل واصل صياحه وهو يستعرض عبارات أخرى سقطت من ذاكرته المصدومة، لم يقدر بعد ذلك على الاستماع إلى حديثه المتشنج، أنهك ذلك الاستقبال العنيف الذي استقبل به روحه الجميلة وأرهقت كلماته الجارحة أذنيه، كل ما يتذكره هو أنها كانت عبارات قاسية مزقت مشاعره الطفولية البريئة، فهو لم يتوقّع في تلك اللحظة القاسية مثل هذا الاتهام بالكذب من معلمه المفضّل لديه، ولم يكن مستعدا لمثل هذا الموقف الصادم، لم يكن قادرا على تحمل غضب معلمه وتحمّل اتهامه الصارخ له بالكذب، لم يكن ليعرف في تلك السن المبكرة المعنى الحقيقي لكلمة الكذب أو التحيّل.
تذكّر جيدا كيف أنه تحامل عل نفسه وأقسم لمعلمه مرارا وتكرارا دون أن يعرف المعنى الحقيقي للقسم، لقد أقسم أنه قرأ القصة كاملة بمجرد أن عاد إلى المنزل لذلك هو يعيدها في اليوم الموالي ليقتني قصة أخرى، لم يشأ أن يقول الحقيقة كاملة ويعلم معلمه بأنه كان متعودا على المطالعة وهو مترجّل إلى المنزل، كثيرا ما كان ينتهي من القراءة قبل أن يصل إلى باب المنزل الذي لا يبعد كثيرا عن المدرسة.
قد تكون هذه الحقيقة صعبة التصديق فقد تتحوّل إلى أكذوبة لا مجال للتخلص من ذنبها العظيم، كانت تلك الحادثة غريبة حقا فلولاها لما تذكّر كيف أنه كان يدفع كل ما يملك من المليمات القليلة ليتحصل على قصة من بين القصص المعروضة في تلك القاعة الصغيرة المظلمة، ثم يخرج بخطى بطيئة متعمدا الترنح في مشيته وهو متوجه إلى البيت، لا يقدر على منع عينيه من تأمل صفحات القصة صفحة صفحة، ولا يستطيع منع لسانه على تتبع الكلمات والحروف المرسومة كلمة كلمة، حرفا حرفا، بصوت خافت حينا وبصوت منخفض حينا آخر، غارقا في الأحداث المتراكمة وفي مغامرات الأبطال، متألما لآلامهم، فرحا لأفراحهم، لا يلوي على شيء ولا تمنعه عراقيل الطريق ولا ضجيج السيارات وأصوات المارة على الانهماك في القراءة إلى أن يصل إلى المنزل فيجد نفسه قد أتم كامل القصة أو أن ما تبقى منها لا يتجاوز بضع صفحات أو بضع جمل.
تذكر جيدا أنه عوقب من أجل ذلك عقابا لم يكن يعلم أنه أجمل عقاب عوقب به في حياته الدراسية المبكّرة، فقد طلب منه معلمه أن يعدّ له تلخيصا للقصة التي يقتنيها ليستظهر به في كل مرّة حتى يتأكد من أنه يقوم فعلا بمطالعة رواياته وقصصه.
لقد تعلم من تلك القصص التي كان يطالعها كيف يسمح لمخيلته الصغيرة بالسفر والترحال وكيف يحبسها إن لزم الأمر، كانت له قدرة هائلة ليتناسى نفسه وكل المحيطين به وهو يتقمص الأدوار ويعيش الأحداث بكل تفاصيلها البسيطة والمعقّدة، يتذكر جيدا كيف لازمته هذه العادة طويلا حتى أنه نسي متى أقلع عنها، يتذكر جيدا كيف مرت ليال وليال وهو في فراشه دون أن يغمض له جفن لأنه فقط لا يستطيع أن يترك القصة أو الرواية من بين يديه.
يتمسك بملابس والده الواقف بجانبه بعد أن اهتزّت الحافلة اهتزازا خفيفا، يكتشف أنه لا يزال منغمسا في ذكرياته المدرسية وأحداثها الجميلة حتى أصبحت قصصه ورواياته التي طالعها منذ زمن بعيد تدغدغ خياله الخصب، تمر من أمام عينيه كشريط مصور، يكاد يقرأ عناوينها ويبصر صورها الأنيقة المرسومة على أغلفتها، غارقا في عبق أريجها.
تهتز الحافلة من جديد، لتجذبه من ذكرياته الجميلة تلك جذبا عنيفا ولتعيده إلى موقعه وواقعه الذي يعيش، أنزل عيناه على أرضية الحافلة بعد أن كادتا أن تلتصقان بالأفق البعيد المتكسر وراء الأشجار والبنايات التي تظهر من خلال نافذة الحافلة المتسخة، متقاربة حينا ومتباعدة حينا آخر، يتفحّص بعينه الأرضيّة الصغيرة المنحسرة بين الأرجل والأحذية المتعفنة، ملّ الموقع الذي هو فيه وكره الصور المقززة التي تحيط به من كل جانب، فعاد من جديد ليجذب صور القصص التي كان يطالعها بعد أن أوشكت أن تتبخر من ذاكرته.
لا يذكر أنه قرأ من بين ما قرأ قصة حملت على غلافها الخارجي صورة لحذاء، لقد مرّت أمام عينيه هذه الصورة وهو يستعرض في مخيلته المكتضة الكثير من الصور لقصصه ورواياته المتنوعة، تمر من أمام عينيه كشريط مصور لأريج من زمن بعيد، حاول تذكّر عنوان تلك القصة دون جدوى، تسارعت الصور والأشكال وتداخلت الألوان في ذاكرته الصغيرة المزدحمة، يجهد نفسه لعلّه يعرف من أين له بهذه القصّة الحاملة لصورة حذاء على غلافها.
تتزعزع أرضية الحافلة من تحت قدميه مرة أخرة ودون سابق إنذار، يرتجّ المكان ارتجاجا قويا لتلتصق الأجسام بعضها ببعض لحد الاختناق، ليس الأمر بجديد، فلطالما عاش مثل هذه الأحداث في كل مرة يكبح السائق فرامل الحافلة فجأة، شعر بالاختناق وهو يبحث عن الأرضية التي كان واقفا عليها دون جدوى، وفي حركة رشيقة اقترب منه أبوه ليبعد عنه الأجساد الضخمة التي حاصرت جسده الصغير من كل جانب حتى جعلته معلقا في الفضاء معتصرا بين الأجساد الضخمة، وبسرعة خاطفة استطاع أن يخلصه من هذه المحنة وعادت ساقاه لتلامسا أرضية الحافلة.
عاد الهدوء من الجديد بعد أن علت الأصوات وتكاثر الصياح وانهالت على السائق الشتائم من كل جهة، نظر إلى والده وهو يبحث عن بعض العبارات التي قد تخلصه من ذلك الكابوس اللعين، وفهم الأب ما يدور بخلده، يبتسم الأب ابتسامة عريضة ويقول له :
– ها قد أوشكنا على الوصول.. لا تخش شيئا يا ولدي..
لم يظهر على وجه الطفل أية علامة تفاؤل أو استحسان، طأطأ رأسه لترتطم عيناه بصورة حذائه الذي تبعثر لونه الأسود من كثرة ما تلقى من ركلات وصدمات من الأحذية الخشنة المجاورة له.
عرف فجأة وفي تلك اللحظة من أين جاءته صورة الحذاء الذي اعتقد أنها صورة غلاف لقصته المجهولة والتي حشرت داخل القصص التي طالعها، برقت من عينيه ابتسامة وهو يتذكّر أمّه وهي تحثّه على تنظيف حذائه في كل مرة وخاصة عند خروجه من المنزل لكي يكون في مظهر لائق، لطالما ألحّت عليه أن يقبل مثل بقية أقرانه الحذاء الذي يوزع مجانا بالمدرسة في بعض المناسبات الوطنية أو الدينية، لطالما عملت أمه على إقناعه بأن ذلك ليس عطاء أو صدقة بل هي هديّة ومن العيب على المرء رفض الهدية، لم يكن ليقتنع بكلامها، ولكنه كان مقتنعا بموقفه الذي يتّخذه في كل مرة وفي كل مناسبة حين يدخل عليهم حاجب المدرسة قاعة الدرس يحمل بعناء شديد الصندوق الخشبي الكبير وقد ملئ بأحذية سميكة خشنة سوداء وبنيّة اللون، يمعن الحاجب النظر في وجوه الأطفال وإن هي إلا إشارة واحدة منه فإذا هم جميعا لديه محضرون، يتسارعون، يتسابقون، بالصندوق الخشبي القديم يحيطون، تتزاحم أجسادهم النحيفة وقد اشرأبّت إليه الأعناق وامتدت إليه الأيدي لتحكم الإمساك بالأحذية الجديدة، تذكّر كيف أنه كان يجول بنظره داخل هذا المشهد فتقع عيناه مرة على أقرانه ومرة على الصندوق، ينظر مليا إلى حذائه ويعود للجلوس في مكانه وهو لا يزال يتأمل المشهد المثير، يفكر ماذا لو سألته أمه عن الحاجب وصندوق الأحذية، وهــل تسلّم حذاء مثـــل أقرانـــــه أم أنـــه ترك الفرصــــة تمـــر كمــا هـــي عادتـــه وكأن شيئا لـــم يكن ؟
لقد كان يعرف جيدا كيف كان يتخيّر الأجوبة التي قد تكون مقنعة لأمه، فلطالما كان يقول لها بأن حذاءه مازال جديدا في حين أن أحذية أقرانه بالية ولابد لهم من تغييرها، لقد كان يعرف حقيقة معنى معاناة الآخرين وعذاباتهم المؤلمة المتواصلة، لطالما راوده الشعور بالحزن والأسى عندما يشاهد علامات الفقر مرسومة على ملامح أصدقائه، هو نفسه لم يكن ميسورا، لقد كان من عائلة متواضعة وهو حال كل العائلات التي كانت تعيش في تلك المنطقة من المدينة.
كان يعرف كيف يتخلّص بذكائه من الحذاء ومن مواجهة عتاب أمه له، ولكنه لم يكن قادرا على التخلص من كأس الحليب الذي يشربه مرغما كل صباح قبل دخوله قاعة الدرس، لقد كان نفس الحاجب وهو يقف أمام باب خشبي صغير يؤدي إلى غرفة مستطيلة الشكل مظلمة أو تكاد، لقد قيل أنها غرفة تسكنها الفئران الشريرة المتربصة بالأطفال المتقاعسين عن القيام بالواجب، كان يعرف أنها خرافة من محض الخيال لإخافة التلاميذ الذين تسوّل لهم أنفسهم عدم القيام بواجباتهم المدرسية، فهو لم يرى طوال سنوات دراسته فأرا واحدا متسللا من ذلك الباب الخشبي البالي، بل كان يرى ذلك الحاجب وهو يقف كل صباح حذو ذلك الباب وأمامه وعاء يكبر الأطفال الصغار طولا وعرضا وقد امتلأ بالحليب الساخن الذي يحجب دخانه وجه الحاجب من حين لآخر، يصطف التلاميذ أمام هذا الوعاء الواحد وراء الآخر ليشرب كل منهم نصيبه من الحليب في كأس حديدي أنهكه الاستعمال، بقي يتذكر طعم ذلك الحليب طوال حياته كما بقيت رائحته ونكهته تلاحقانه إلى سن متقدمة.
كثيرا ما كان يستغرب من ذلك العطاء السخي، أحذية وملابس مجانية وأدوات مدرسية في العديد من المناسبات، إضافة إلى الحليب الساخن كل صباح ولمجة كل يوم في استراحة الفترة الصباحية، كان يشعر أن شيئا ما كان يدفع الجميع للعمل الجاد، قد يكون الحب للمعرفة أو هو الحب للوطن الذي بقي لسنين طويلة يرزح تحت الإستعمار الفرنسي، إنه الجيل الذي عرف حقيقة قيمة الأرض وقيمة الكفاح وقيمة التضحية، هي المبادئ التي كثيرا ما كان يقرأ أو يسمع عنها أو يعيشها في الكتب وفي المدرسة وفي الشوارع وفي كل الأمكنة الإجتماعية المختلفة، قد تكون حالة الخصاصة التي تعيشها البلاد في ذلك الوقت هي التي جعلت الجميع على درجة كبيرة من الوعي بأن الرقي والتقدم إنما هو نتاج للكفاح وللتضحية معا.
يمسكه الأب من يده ويجذبه مسرعا نحو الباب بعد أن توقفت الحافلة في المحطة، فقد وصلا إلى المحطة المرجوّة دون أن ينتبه إلى ذلك، لقد حلّقت به مخيلته بعيدا حتى أنه لم يشعر بما يدور حوله من أحداث، يسرع الأب والقفة المثقلة بين يديه يتأرجح بعض ما فيها بين الأرجل، يحاول أن يساعد والده ويحمل معه ما يستطيع حمله من أكياس، أخيرا هما بالباب إنها ساعة الخلاص وساعة الفرحة العارمة فالبيت لا يبعد إلا بضع أمتار عن المحطة، ما تبقى من اليوم قد يكون مريحا.