الأستاذ وحيد لجمي/ تونس
يمسح الطفل الغض على رأسه وكأن ألما اعتصره، إنه يشعر بالتعب، لقد تأخّر الأب كثيرا وبدأ يفكر في الجلوس في مكان ما لعله يريح ساقيه الصغيرتين من تعب الوقوف، كان يخاف دائما من فعل ذلك، فقد تدوسه الأقدام ولن يروه بين أكداس الحاويات والصناديق الخشبية الممتلئة بالخضار والغلال، وصناديق أخرى فارغة ترتفع مع الحائط المتّسخ لتصل إلى أعلى السقف، ينظر إليها خائفا، فإن سقطت فقد يلقى حتفه ولن يجدوه إلا بعد ساعات أو ربما بعد أيّام، تململ ونظر يمينا وشمالا، أخيرا قرر الجلوس فلم يعد يتحمل الوقوف أكثر من ذلك الوقت، بدا مترددا حائرا ينظر إلى المارة وكأنه يطلب منهم المساعدة في أخذ القرار، إلاّ أن الأب كان حاضرا دائما في الأوقات المناسبة، تلك هي عاداته، يتواجد دائما متى وجب عليه أن يكون متواجدا.
يسمع صوت أبيه يناديه، صوت متقطع وقد لفّه شيء من التعب، نبرة مختلفة وصوت لا يشبه صوت المنادي المشعّ بالنشاط في ذلك الصباح الباكر ليحرمه لذة النوم يوم الأحد، أتى الصوت في هذه المرة خافتا متعبا ليمنع عنه قرار الجلوس على حافة الزقاق الضيق تحت حائط مختلفة ألوانه بين الأخضر والأسود والبني القاتم وتحت ركل الأرجل المسرعة والتي لا تلوي على شيء والصناديق الممتلئة والفارغة.
يتنفسّ الطفل الصعداء ويكاد يعانق أباه فرحا بانتهاء معاناة الإنتظار، ولكن قساوة حمل الأثقال ورحلة العودة إلى المنزل في انتظاره كما جرت العادة، لقد جاء والده محملا بشتى أنواع الخضر والغلال، مثقلا بالقفة الكبيرة وبأكياس ورقية حشرت في القفة حشرا، إنها مؤونة أسبوع بكامله لعائلة متكونة من أربعة أولاد وبنتين، لقد كان هو أصغر الأولاد في العائلة وأقربهم إلى قلب أبيه، ولطالما سمع من الكلام الجميل والعذب ما لم يسمعه بقية أفراد العائلة من الأخوة، لقد كان يعلم جيدا موقعه ورفعة شأنه داخل قلب الأب، ولكنه كان يعلم جيدا أن ثمن هذا الحب كان باهضا جدا، فقد كان يكلفه ذلك اعتماد الأب عليه في العديد من الأعمال وخاصة تلك المهمّة القاسية في كل يوم أحد، إنها رحلة التسوّق المريرة.
لم تكن رحلة العودة إلى البيت في الحافلة المزدحمة كرحلة الذهاب، كثير من التعب، حمل القفة الممتلئة والأكياس المحشوّة، يثقل كاهله الصغير، الروائح الغريبة المنبعثة من كل مكان والتي لم يكن أنف الطفل الصغير ليفهمها أو يتحمّل قساوتها تملأ أرجاء الحافلة لتنشر داخلها وداخل كيانه الصغير إحساسا غريبا من التشاؤم والإشمئزاز.
ينظر إلى جانب الطريق من نافذة الحافلة، يشاهد تلك الأشجار الفارعة، هي نفسها الأشجار التي مرّ بها في رحلة الصباح الباكر، نفسها المنازل الصغيرة المبعثرة في مساحات شاسعة، تهرول مسرعة بسرعة الحافلة المتوجهة إلى البيت، كلّما أسرعت أكثر كلّما أحسّ بأن ساعة الخلاص قد حلّت وأن الفرج قادم لا محالة، كان يسأل نفسه لو أنه ينتقل بجانب السائق في مقدمة الحافلة، فقد يكون ذلك أجدى له ليخفف عنه حالة الاختناق، لقد كانت النافذة التي بجانب السائق مفتوحة، هو يعلم جيدا لماذا يبقي ذلك السائق النحيف صاحب البشرة السمراء النافذة الصغيرة مفتوحة.
يقف بجانب والده والقفة والأكياس بينهما، تكاد الأرجل أن تدوسها، ينظر إلى من حوله، خلفه وأمامه، لعله يجد ممرا أو طريقا يخطوه نحو مقدّمة الحافلة، يهمس الأب بكلمات معدودات وقد علم جيدا ما يدور بخاطر طفله الصغير:
– انتظر قليلا.. سوف يخفّ الزحام.. نحن نقترب من محطتنا..
يتسمّر في مكانه، ينظر إلى الأكياس الورقية الكبيرة والقفة المحشوة وهي تقبع بين ساقيه، نظر مليا إلى أسفل القفة وقد تدلت منها الخضار على حذائه الذي بدأ في التقادم والتشقق لتغطي جزءا منه وتترك الآخر، حاول تذكر كيف ومتى أشترى له أبوه ذلك الحذاء، جسده المنهك، نظراته الحائرة المرهقة، ذهنه الشارد، منعه كل ذلك من تذكر الأحداث التي حامت حول شراء ذلك الحذاء، كان ينظر إليه وهو يعلم أنه قد تحصّل عليه في إحدى المناسبتين الدينيتين فإما هو عيد الفطر وإما هو عيد الأضحى، وقد يكون ذلك بمناسبة انطلاق سنة دراسية جديدة، لم يكن والده ليبخل عليه بحذاء جديد مع ما يشتريه من كم هائل من الكراسات والأقلام والكتب له ولأخته الصغرى.
تجاذبته الأفكار والذكريات وهو يستعيد ملامح تلك الكتب وتلك الكراسات التي كانت تعني له الكثير، أشكالها، ألوانها، لم تبارح صورها مخيلته، لم تهجر رائحتها حاسة الشم لديه، أغمض عينيه وشعر وكأنه يرغب في ترك ذلك المكان التعيس ولو لبرهة قصيرة، عيناه مغمضتان تصارعان الأنوار الساطعة المحيطة بها، تمر بأنفه رائحة كراساته وكتبه الجديدة، تدغدغ مشاعره الحالمة، تمنع عنه الروائح المقززة التي تأتيه من كل ركن من أركان الحافلة المزدحمة.
إنها رائحة العودة المدرسية بكل ما فيها من أحلام وأحاسيس وتأمّلات، لقد أحب كتبه وكرّاسته تلك مثلما أحب مدرسته، تعلقه بأدواته المدرسية الجديدة قصة حب وعشق جميل، قد تكون تلك هي أوّل حالات الحب التي تجمعه بالأشياء، لم تكن قصص الحب والهيام لتفارقه رغم صغر سنه ورقّة أحاسيسه التي لم تتعود على آلام العشق الممنوع.
تذكر ابنة الجيران ورفيقته في المدرسة، إنها الفتاة الهيفاء الجميلة، لطالما عشقها وهو لم يعرف بعد معنى العشق وهام بها وهو لم يدرك معنى الهيام، طويلة، نحيفة، ناعمة الشعر، زرقاء العينين، كثيرا ما تمنى ملازمتها، يفعل ما كان يدرك أنه من المستحيلات من أجل أن يلتقي بها داخل المدرسة وخارجها، تناثرت كل أحاسيسه الصغيرة منطوية على نفسها وهو يتذكّر ملامحها الرقيقة الناعمة، يستحضر محاولاته اليائسة في التقرّب منها ومن أخوتها وعائلتها، كان اليأس اختناقا يلفّ وجوده الصغير، يقتل شعورا جميلا بقي حبيس الممنوعات والمحرمات، كان يشعر بكل قوة أن أحاسيس الحب الغارقة في أعماق الصفاء لا تختلف في شيء عن أحاسيس الموت الغارقة في أعماق العدم.
تجاذبته في تلك اللحظة مشاعر الحب والموت، شعر وكأنه يعيش تلك الأيام بكل تفاصيلها الدقيقة، لطالما ألغزت عليه المشاعر حتى أنه لم يكن يميز بين السعيد منها والحزين، تتداخل في ذاته مشاعر الحب والفراق، كثيرا ما ينغمس في مشاعر يجهل معانيها الحقيقية ولا يدرك كيف يضع نفسه داخلها، تجاذبات غامضة تغرقه في كون من الحيرة أمام متناقضات الحياة، أحاسيس مبهمة تربطه بالغياب، بالفراق، بالموت، كما بالحب والوجود والحياة، كل ما تولّده الحياة يسرع مهرولا نحو الفراق والغياب، إنه قدره المحتوم الذي يجعله يتوقف أمام أسئلة مربكة، حائرا، باحثا عن حقيقة كونه المحاط بالألغاز والأسرار.
تذكّر الشيخ يوسف الذي علّمه حفظ القرآن في زاوية الحي وهو لم يفقه بعد رسم الحروف، رجل متمسك بدينه، وقور، وجه صبوح، جبين ناصع خال من أي علامة من تلك العلامات التي تطبع جباه البعض من كثرة الصلاة كما يقولون، كثيرا ما كان يتسائل رغم صغر سنه عن تلك الصلاة التي يزيدونها ويضاعفونها حتى تتطبّع أجبنتهم بتلك العلامة البنيّة السوداء، هل حقا هي نتيجة لتلك الصلوات أم هي نتيجة لأشياء أخرى..؟ ومتى يعملون، ومتى يكدحون، ومتى يوفرون لقمة العيش لهم ولعوائلهم إذا ما كان كل وقتهم قد خصص للصلاة والتوكّل والتضرّع والدعاء.. ؟
لقد كان الشيخ يوسف يعمل بجد وعزم، ولكنه يقيم الصلاة في أوقاتها ويؤدي جميع فرائضه بكل تفان كما كان يراه في بعض الأحيان في الزاوية وكما كان يشاع عنه، لقد كان حليقا جميلا رغم تقدمه في السن، أنيقا في ملبسه كما يبدو له.
مرت بذاكرته ما تبقى من صور تلك الزاوية الشاحبة بجدرانها القديمة البالية، تكاد أشعة الشمس أن تهجر ما بداخلها من طاولات وكراسي خشبية نخرها السوس، تحاول جاهدة بعض من الخيوط المضيئة التسلل من النافذة الوحيدة الصغيرة في أعلى القاعة لتلج في بعض الأمكنة المظلمة الحزينة لتشعرها بالحياة، روائح النّمارق القديمة المصفوفة والزّرابي البالية المبثوثة والتي كانت تغطي الدكّة الأسمنتية حيث يجلس الشيخ يوسف هناك، تملأ المكان برائحتها المتقادمة، تدخل زوجته من حين إلى آخر وهي تحمل كانونا به جمر تنثر فوقه بخور فتملأ المكان عواثن ودخان كثيف، يغشي من كان في القاعة ويحجب الروائح الكريهة والغريبة التي تصدر من الجدران والأثاث القديم، أطفال يجلسون على المقاعد يتأمّلون الشيخ أمامهم، جالسا حينا ومتكئا حينا آخر، يتمايلون يمينا ويسارا وكأنهم يراقصون موسيقى وألحانا لا تسمعها إلا آذانهم المتعلقة بشيخهم وهو يردّد بصوته الجوهري آيات بينات من الذكر المبين.
جلبة خفيفة تزيح غبار الصمت الذي غمره وهو يستحضر كل تلك الصور الباهتة، ترددت على مسامعه أصوات التراتيل الطفولية متقطّعة خافتة، تتباعد وتتقارب داخل ذاكرته الخصبة وكأنها أشباح تتراقص على خيوط من خيالات، تتحرّك شفتاه الصغيراتان الناعمتان لتردّدا مع تلك الأصوات الشبحيّة الرقيقة الكلمات المقدسة المحلّقة في فضاءات الخيال.
قفزت إلى رأسه فجأة تلك الصورة التي لم يدرك مقدار حزنها وآلامها إلا بعد مرور سنوات طوال، كان يسير متعثرا وسط حشد من الناس، يتّبع موكب جنازة الشيخ يوسف وهو لم يتجاوز الستّة سنوات من عمره، يسرع أحيانا ملتحقا بالركب حتى يتعثّر ويكاد يسقط أرضا، ويلزم بعض الأزقّة حينا آخر متأمّلا المشهد الغريب دون أن يدرك الكثير من معانيه التي بقيت غامضة ملغزة، لم يكن يعرف إلى أين يأخذون العم يوسف ولماذا يحملونه بتلك الطريقة الغريبة التي كان عليها، ولماذا لا ينزل من محمله ذاك ليترجّل مع الحشود وليسير مع السائرين؟ من المؤكد أن وجعا في رجله منعه من تحمّل مشقّة السير، أو أنه قد يكون كره الوجوه التي ألفها ففضّل أن يتوارى عن الأنظار تحت ذلك اللحاف الأخضر الفاقع اللون.
أسئلة كثيرة كانت تدور بخاطره الغض دون أن يجد لها إجابة شافية، بقي كل شيء ملغزا ومبهما.
يغيب العم يوسف، يشعر بأنه يتيه في طيّات الزمان، تندثر الأسئلة وتذوب في سراب مقيت، وينتفض الجميع، ويعتصر القلب الصغير ألم غريب لم يكتب في قاموس تاريخه ولم يرسم بعد في مخطوط الأحداث التي لم تعرف مستقرا حقيقيا داخل وجوده الناعم الرقيق.
غابت شمس ذلك اليوم، وغابت معه كل الصور وكل الأصوات المكبّرة، وما تبقى من الأصوات اليائسة وعيون غائرة بائسة.