وحيد اللجمي أستاذ الجماليات و فلسفة الفن السيميولوجية بالجامعة التونسية
جلبة كبيرة تنتشر هنا وهناك، حركة حثيثة تدخل المقبرة دون سابق إنذار، رجال ونساء وأطفال في مقتبل العمر، يسرعون، يهرولون، يتعثرون، وآخرون تحملهم أرجلهم وهم يمشون على الأرض هونا، يتقدم تلك الجموع رجلان ضخما الجثة طويلان، قويا البنية، أشعثا الشعر، تظهر على وجهيهما علامات الشدة والصلابة، يحملان فؤوسا ومعاول، يتبعهما رجل قصير القامة مكتنز جسيم، تكاد لحيته الكثة تدرك الأرض، يترنح يمينا ويسارا في جبة رمادية اللون تقادم قماشها، يحمل بيده سبحة وكتابا وعلى رأسه عمامة لم يبق منها سوى شكلها المدوّر، تغطي جزءا من رأسه وتترك جبينه عاريا، تظهر علامة كبيرة سوداء وبنية اللون، متشققة متجعدة، تغطي كامل جبينه، يحيط به بعض من الرجال، تشابهت وجوههم وتقاربت أشكالهم، يسيرون على وقع خطاه، تحسبهم من التصاقهم به ظلّه الذي به يتظلّلون، هالة من الناس تحيط بهم تارة وتتبعهم أخرى وهم متفرّقون، يتجهون جماعات وفرادا نحو مكان ما بالمقبرة وكأنهم على موعد مع أحد ما أومع شيء ما.
تمزّق تلك الحركة الغريبة الهدوء الذي كان يخيّم على المكان، أحاديث متبادلة بأصوات خافتة، هادئة هنا، وأصوات هامسة هناك، وأخرى جهيرة، تشتد الرياح شيئا فشيئا وكأنها تجاري ذلك المشهد السّاخن الذي حلّ بالمقبرة فجأة، تهرع الطيور هاربة مشتتة في السماء بعد أن هزت الرياح بقوة أغصان الأشجار الضخمة المرتفعة، هناك على جنبات المقبرة يمتلئ الفضاء طيورا سوداء ورمادية مختلفة الأحجام، تصدر أصوات متناغمة حينا وأخرى نواشز غريبة، مفزعة حينا آخر.
تشتد الحركة، تشرئب الأعناق، ترتفع الأصوات، توجه الإشارات والأيادي إلى قبر قديم هناك، في أطراف المقبرة، يتوجّهون نحوه بخطى حثيثة، تتجمع حوله الحشود، يتحدثون، يتساءلون، خاشعة أصواتهم فلا تسمع منها إلا همسا، أصوات ذابلة تجهش بالبكاء، تحمل الرياح نواحها، تلقي به على مشارف القبور القديمة البعيدة هناك، بين تلك الأشجار العظيمة المترامية، تسقط حولها أوراقها اليابسة المتكسّرة، يختلط صوت تلك الأوراق وهي تحتكّ بالقبور وبالصخور بذلك النحيب الحزين الآتي من بعيد، على وقع تلك الأصوات المختلطة ترقص الأوراق في حركة دائرية متسارعة على صفيح القبور ونتوءات الصخور، تطوف حول جذوع الأشجار العملاقة وكأنها تسبّح بحمدها، جذبت هذه المشاهد الغريبة التي أربكت المكان أنظار الحاضرين، توجّه الجميع فرادا وجماعات نحو القبر القديم وعيونهم لا تفارق المشهد الغريب.
بقي يراقب عن كثب دون أن يتحرك من مكانه وفي رأسه ألف سؤال وسؤال، ترتفع الجلبة وتصبح الحركة محمومة، ثم يعمّ الصمت فجأة وقد حبست الأنفاس وتعلّقت العيون بالفؤوس المرتفعة في الفضاء، تنتظر لحظة ارتطامها على أول حجر من حجارة ذاك القبر القديم المتآكل، خطى تتسارع قادمة من كل الأمكنة، تتسابق أرجلهم لتقترب من ذلك القبر أكثر فأكثر وكأنهم يتسابقون للفوز بأولى المشاهد القادمة من العوالم العجيبة، من يلمح ما بداخل ذلك المكان المظلم قبل أن تختطفه الأبصار، ومن يكتشف أول الصور التي سيكشف عنها الحفّارون.
يعود الشاب الوسيم من ذلك المكان متباطئا وكان قد التحق بالجموع، يقول وقد غابت من على وجهه أي علامة حاملة للمعنى :
– إنه قبر رجل مات منذ سنوات طوال خارج البلاد.. مات ودفن في ذلك القبر القديم دون أن يعلم أهله من شأنه الشيء الكثير..
يسكت فجأة، ينظر إلى ذلك المكان البعيد، حيث القبر القديم، تشدّه الصور المتلاحقة القادمة من هناك، يتردد في البقاء، يتحرك من جديد نحو المكان وهو يقول :
– لقد دفن المسكين في صندوق خشبي على شاكلة المسيحيين.. لم يتمكن أحد من رأيته في ذلك الزمن البعيد..
يبتعد ليلتحق من جديد بالجموع الغفيرة، يتلاشى صوته وهو يردد آخر كلماته وسط الصمت الذي يخيمّ على المكان.
لقد فهم سبب كل تلك الجلبة وتلك التحركات الغريبة، إنها فرصة هذا الجمع الكبير من الأهالي ومن الناس للنظر إلى ما تبقى من ميتهم ذاك، لقد أتعبهم الفراق وهزّهم الاشتياق، من المؤكد أنهم سيجدون أنفسهم أمام مجرّد هيكل عظمي لا يوحي بشيء، ولكنه قد يذكرهم بمن أحبوه أو كرهوه، قد يحمل لهم عبق الذكريات السعيدة من الزمن البعيد عندما كان معهم أو كانوا معه، أو قد يجدونه كما يريدون له أن يجدوه، أو كما هم يضمرون.
سكون مخيف مرعب يخيم على كامل المقبرة، يأبى صفير الرياح الانصياع لهذا الهدوء الغريب، يواصل صفيره الفاتر الحزين، ويعود النحيب الأنثوي بأصوات ناعمة رقيقة ليضفي على ذلك الصفير ألما وأنينا.
تمرّ اللحظات وكأنها السنين في انتظار اللحظة الحاسمة، ترتطم الصور المنتشرة بالمكان بعيون جاحظة، نظراتها تائهة، وجوه كئيبة فاترة، ألوانها شاحبة، يقصم ذلك الصمت المريع تمتمات ذلك الرجل القصير، يفتح الكتاب بيمينه ويعلّق سبحته بيساره، لا تسمع منه سوى غمغمات كأنها الطنين، يعود العويل، تنفتح العيون على آخرها وهي تتابع مشهد السواعد الضخمة تهوي بمعاولها وفؤوسها الحادة على الحجر القديم.
وكانت الواقعة، واشتدت الفؤوس على القبر كالصواعق تنزل من السماء، تمزّق الفضاء بأصواتها المرعبة وتنشر في المكان أزيزا حادا يصمّ الآذان، ورجّت الأرض رجّا، ودارت الأعناق وتململت الأجساد وتفتّحت العيون على آخرها، يقترب الحشد من القبر أكثر فأكثر، والتفت السّاق بالسّاق، تنطق الألسن ببعض الحروف من هنا وقليل من الكلمات الملغزة هناك، يتواصل الأزيز بأكثر حدة، حتى بسّت الصخور بسّا، ونسفت الحجارة نسفا، غبار الأتربة والرمال يرتفع عاليا، يسدّ الأنوف ويدمع العيون، تبتعد حشود وتقترب حشود، يحوم الصبية حول القبر وكأنها العقبان تنتظر لحظة تسليم فريستها النفس الأخير، علامات الاستفهام ترتسم على وجوههم وكأنها لوحات داكنة تهرب منها كل العلامات وتغيب عنها كل المعاني، ترتطم الفؤوس من جديد بسطح القبر، قاسية متسارعة، وتنبش المعاول الصخور المتكسرة وتبعد الحجارة المهشمة تنشرها يمينا ويسارا.
لا يرفع الرجل القصير عينيه عن الكتاب، يواصل تمتماته وغمغماته غير عابئ بأصوات الفؤوس والمعاول ولا بتلك الحجارة المنفلقة، لا يهتم بتطاير الحصى في الفضاء ولا بتلك الأتربة تنشرها الرياح على الوجوه والأيدي والملابس المتعفّرة.
تمور الأرض مورا، وينفلق القبر، وتنبلج الظلمة القاتمة التي بداخله، تحبس الأنفاس، يتوقف الرجل القصير عن تمتماته الغامضة، يرفع عينيه عن الكتاب، يلقي بنظرة على تلك الفتحة الصغيرة التي أحدثتها الفؤوس في القبر المتداعي، يرتفع صوته عاليا، متسارعا، مرتعشا، وقد تركت عيناه الكتاب وتلعثم لسانه وهو يردد كلمات متسارعة :
– وأخرجت الأرض أثقالها..
ثم يمكث إلا قليلا ويستدرك قائلا :
– وزلزلت الأرض زلزالها..
ثم مال ببصره على من حوله وهو ينظر من طرف خفي وكأنه يتفقّد شيئا أو أحدا ما ثم عاد ليردّد بصوت مرتفع :
– وقال الإنسان مالها..
يقترب منه أحد من بين المرافقين، يهمس في أذنه بعض الكلامات ثم يبتعد ليعود إلى الوقفة التي كان عليها ساكنا لا يتحرك.
بعينين جاحظتين أكمل الرجل القصير جولته السريعة المرتبكة في المكان، يعود ليرتّب كلماته من جديد وهو يرفع صوته أكثر فأكثر وكأنه يريد أن يسمع كلماته المنمقة الموزونة من به صمم :
إذا زلزلت الأرض زلزالها.. وأخرجت الأرض أثقالها.. وقال..
لم يكمل ترتيله المرتجل حتى اهتزت الحجارة اهتزازا عنيفا من فوق القبر، تتهشم قطعا صغيرة، يسقط منها ما يسقط داخل الحفرة المظلمة، وتنتشر قطع أخرى يمينا ويسارا، نور ساطع يدخل الفتحة، يمزق الظلمة الحالكة التي به، يدخل الخارج في الداخل، ويخرج الداخل إلى الخارج، تختلط الأمكنة في مشهد غريب مزعزع، تخشع الأبصار والأصوات، وتتيبّس الأجساد، تتلاعب الرياح بالغبار المتصاعد من الحفرة المكشوفة كظلال أشباح أو كدخان هارب إلى السماء، يتصاعد ملتويا متمايلا وكأنه الأنفاس وهي تنعتق من سجنها الأبدي، يظهر جزء صغير من صندوق خشبي بال، داكن اللون، تآكلت بعض ألواحه وبدا وكأن السوس قد فعل فيه ما فعل.
تعود المعاول لتهوي على ما تبقى من الحجارة المتداعية المبعثرة، يجتهد بعض الصبية في الإقتراب أكثر فأكثر من المكان وقد انقطع كل صوت لها سوى حفيف أرجلها وهي تقفز بكل رشاقة فوق الصخور والأتربة المتراكمة في كل مكان.
يضع أحدهم يديه على رأسه، يمرّرها على وجهه الشاحب ثم على رأسه من جديد، تلتقط عيناه المشاهد المتراكمة من حوله وبعض الصور الحالكة الخارجة من ذلك المكان المظلم، حركاته المتشنّجة تنساب في كامل جسده النحيف، يخرج من جيبه سيجارة، يشعلهـا، يضعها بين شفتيه المرتعشتين، دخان يعلو في المكان، يختلط بذلك الدخان الذي يخرج من القبر، ترتسم في الفضاء صور وأشكال وكأن بالراقدين من الأجداث إلى ربهم ينسلون، يهدأ الرجل قليلا ويتبدّد ارتباكه وهو ينفث الدخان مرارا وتكرارا، تتسارع أنفاسه وكأنها الأنفاس الأخيرة التي في صدره، لا تترك عيناه القبر المنفلق، ويعود جسده من جديد لتلك الحركة المرتبكة التي تلازمه.
تعلو من كل مكان أصوات مكبّرة بنبرات حزينة فاترة، احتكاك المعاول والفؤوس على الحجارة كأنه الأنين، تأوهات متشابهات تخرج من صدور المحدّقين، في ركن غير بعيد تتجمّع نسوة مغطات الرؤوس، ساجيات الطرف متكحّلات، يختلسن صور السواعد المتعرّقة المتّسخة وهي تصارع الصخور، لا يسمع منها لغوا، تداعب الرياح ألحفتها السوداء والبيضاء وتنشر عليها ما تيسّر من الغبار والأتربة الصفراء.
تحاول بعضهن ليقاومن العصف حتى لا تنكشف رؤوسهن وحتى لا تداعب النسائم القوية شعورهن الحالمة بالانعتاق، تفشل إحداهن في مسك لحافها الأبيض، تتقاذفه النسائم من جهة إلى جهة، تأخذه من مكان إلى مكان، ينكشف رأسها، تغازل الرياح شعرها الأسود الناعم، تراقصه بقوّة وعنف على نغمات صفيرها الحزين، تحاول متلطّفة لتمسك بأطراف السفساري المتطاير، ينفلت من جديد من بين يديها الرقيقتين، تأخذ الرياح القوية جزءه العلوي، يرفرف في الفضاء كقلاع سفينة تداعبه الرياح الهائجة، اختلط صوت احتكاكه بالهواء بصوت الرياح تدكّ أغصان الأشجار الفارعة ليصدرا هديرا قويا كهدير القدور، تتلمس المرأة جسدها بهدوء وعلى شفتيها ابتسامة متخفّية، تبحث عن قطعة القماش التي ربطت بها السفساري على خصرها الرقيق، ترتعش يديها ويتبعثر لحافها، ينكشف فستانها القرمزي الأنيق من تحت لحافها وقد شق جيبه على صدرها المنتفخ وكشف عن رقبة بيضاء نحيفة كسوار من اللؤلؤ.
تتحول الأنظار نحو ذلك الركن حيث المرأة وهي تصارع الرياح، تراقصه ويراقصها، يدها البيضاء الناعمة تلهث وراء طرف السفساري المتطاير، تمسك بيدها الأخرى خصرها لتثبت ما تبقى منه على جسدها، يظهر كتفها العاري وقد أصبح كمرآة عاكسة لنور الشمس المتوهجة.
تعب شديد يتملّك الحفارين، يتوقفان عن النبش في الحجارة المنهكة، يمسحان بأكمامهما المتعفّنة العرق المتصبّب على كامل وجهيهما المرهقين، ينظران إلى السماء بعيون نصف مفتوحة، يأخذ أحدهما قارورة من الماء الملقاة جانبا بين الحجارة، يستقي بشدة حتى غمر الماء أنفه وعينيه، يصبّ ما تبقى من الماء على كامل رأسه، ينساب الماء على شعره ثم على وجنتيه حاملا معه الغبار والأتربة كنهر جارف، يلقي بالقارورة الفارغة بقوة وعنف، ترتطم على الصخور محدثة إيقاعا مشتتا، صوت قرقعتها على الصخور تجلب الأسماع، تتبعها العيون وهي تتدحرج لتسقط في إحدى الحفر، هناك حيث النساء الملتحفات، تترك العيون القارورة لتلاقي مصيرها المحتوم، تلاحق جسد المرأة وهي لازالت تصارع النسائم القوية، يتطاير ما تبقى من سفساريها الناعم، تدور حولها بقية النساء وهن يحاولن مساعدتها على رتق ما أفسدته الرياح وستر ما يمكن ستره من جسد المرأة المشعّ المتوهّج كتوهج الشمس الحارقة.
تلاحق العيون اللاهثة ما تبقى من صورة القارورة الفارغة وهي تسقط في الحفرة وتنتهي إلى قراراها الأخير، أقبل بعضهم على بعض وهم يتهامسون، يتبادلون النظرات وعلى شفاههم المسودّة كلمات مبهمة، ابتسامات وهمسات، وتتعالى التكبيرات متتالية متواترة متوازنة.
يعود الرجل من جديد ليواصل تراتيله وقد تعثّر لسانه، فلا يفهم من تمتماته سوى بعض الكلمات المتقطعة وبعض الحروف المتداخلة، يتوشّح وجهه بغمامة سوداء، يتنفس لاهثا وفي يديه رعشة خفيفة، تسرع المعاول والفؤوس لتبعد الحجارة المهشّمة المتراكمة على جانبي الهوّة وقد بدت مكشوفة بالكامل، يضيق القبر بالصندوق المنتفخ المتآكل، تعود العيون لتتأمّل الحفرة والصندوق، تقترب الحشود ويغصّ المكان، ترتفع الجلبة من جديد، زحام وكأنه زحام السوق يوم الأحد، لا تجد الساق فيه من موضع سوى الساق الأخرى، تتقارب الأجساد، يحتك بعضها ببعض، وتضيق الأنفاس.
رائحة غريبة كريهة تنتشر في المكان، مصدرها المجهول جعل الجميع يلتفت يمينا ويسارا وهم يتهامسون، ينزل أحدهم وهو يحاول رفع الصندوق المتداعي، ألواحه البالية المنتفخة تلتصق بقوة بأرضيّة الحفرة، يسارع آخر ضاربا بفأسه سطح الصندوق لعلّه يتمكن من زحزحته من مكانه ولكن دون جدوى، ينظر الجميع إلى وجوه بعضهم البعض، حيرة بدأت تسري فيما بينهم وروائح تزيد الجوّ اختناقا، تواترت الحلول والتدخّلات، الرجل القصير لا يترك الكتاب ولا السبحة من بين يديه، شفتاه لا تتوقفان عن الحركة، لسانه لا يملّ ولا يكلّ، بنبرات متنوعة مختلفة وبنغمات نشاز يرتّل الكلمات، تشتدّ الحركة وتعلو الأصوات، ثم يعمّ صمت خفيف، لا يسمع سوى ضرب الفؤوس على الألواح المهترئة، تتمسّك الألواح بموقعها ويتمسّك الرجلان بنزعها من مكانها.
أدركت السواعد منتهاها ومزّقت الفؤوس رقائق الخشب، يمسك أحد الرجلين بلوح أسود متآكل، يجذبه إليه بقوّة، يرتفع اللوح في السماء وقد برزت مساميره الكبيرة المهترئة، ينكشف ما في الصندوق من سواد مخيف، تنتشر في الفضاء بغتة رائحة قويّة كريهة تخرج من القبر، متبخّرة في أرجاء المقبرة، تهلع النفوس، يتشتّت الجمع بسرعة غريبة وهم يتفرّقون، تتعالى الصيحات من هنا وهناك، يلقي الرجلان بالفؤوس وبالمعاول، يهرولان بعيدا كما لو أنهما قد أصيبا بأسهم من نار، يسقط أحدهما أرضا وقد علق حذاءه بين الصخور ويركن الآخر إلى أحد الزوايا بعيدا وقد طفق يتقيأ وهو ماسك ببطنه منحنيا، يتلوى كما الذي يتخبطه الشيطان من المس، ينغرس رأسه في حفرة هجرتها أجسادها لا يقوى على الاستقامة.
يهرب الجميع من المكان أفواجا، تاركين القبر والصندوق المنفلق، وكأن الأرض قد زلزلت زلزالها وأخرجت أثقالها، يتسابقون ملتحقين بأطراف المقبرة، تتبعهم الروائح الكريهة القاسية، تحاصرهم من كل الجهات وتكتم على أنفاسهم إلى حد الاختناق.
يترك الشيخ القصير مكانه وكأنه يركب الريح، ينفلت كتابه من بين يديه، يسقط بين الحجارة والأتربة، تتلاعب الرياح بورقاته الصفراء، تمزّق الصخور الحادة سبحته المنمّقة، تنتشر حبّاتها البيضاء الباهتة في كل مكان، تتدحرج هنا وهناك، بين الحجارة وفي الحفر، يجري لا يلوي على شيء، تسقط عمامته من رأسه لتجد لها موضعا داخل أحد القبور المهجورة.
يتشتت مرافقوه فلا هم ظلّه ولا هم به يتظلّلون، لكل منهم شأن يغنيه، تهرول النسوة مولولات متّجهات نحو أطراف المقبرة، تسقط إحداهن وقد أصابها الإغماء، يحوم حولها صبية وهم يحاولون حملها ونقلها بعيدا عن الروائح القاسية المتعفّنة، يتعلّق عشب شوكي عملاق بسفساري المرأة ذات الفستان القرمزي، ينزعه من فوق جسدها نزعا، تجري بفستانها القصير الجميل وقد ظهرت سيقانها الرقيقة البيضاء، تلمع تحت أشعة الشمس كاللؤلؤ المكنون، يغيّر بعضهم مجرى الهروب ليسلكوا مجرى هروب المرأة ذات الفستان القرمزي القصير وذات السيقان البيضاء الناعمتين.
يحاول البعض ممن كان في أطراف المقبرة الاقتراب من المكان، لا يعلمون من أمر القبر شيئا، يشلّ الخوف أرجلهم فهم مقعدون، لا هم يتقدّمون ولا هم يتأخّرون، علامات الهلع مرسومة على وجوههم، اختلطت عليهم الأمور وتلاعبت بمخيلتهم الأوهام فسرت الرجفة في أوصالهم، لم يجدوا لهروب الناس من المكان بتلك الطريقة المخيفة وهم مرتعبون أي سبب وجيه، تردّد ألسنتهم كلمات قليلة مقتضبة مرتعشة، شكلتها مخيلتهم العابثة :
– لقد استفاق الميت..
– لقد استفاق الميت..
تنتشر تلك الكلمات في المكان كما النار في الهشيم، وينتشر معها شيء من الخوف ومن الرعب، يستسلم البعض إلى ذلك الوهم العنيف، تدور أعينهم كالذي يغشى عليهم من الموت من شدة الهلع، يسرعون مذعورين خارج المكان تاركين المقبرة وما في بطنها من أموات وما فوقها من أحياء، تدخل أفواج من المتطفلين من خارج المدفن وقد سمعت ما قيل عن الميت الذي بعث من جديد وهو رميم، تختلط الوجوه ويكثر على أطراف المقبرة التدافع، تتداخل الأقاويل وتختلف الروايات، ويتبادل الناس الخرافات والأساطير.
جاء رجل من أقصى المقبرة يسعى، كان رجلا في مقتبل العمر، يتمايل في جبّته الواسعة الرمادية، يظهر من تحتها سروال أبيض قصير متّسخة أطرافه، يلبس في رجليه حذاء رياضيا كبيرا بألوان الطيف، تتدلى من كتفه حقيبة من القماش كمخلاة شعير، يداعب خصلات لحيته الطويلة بأصابعه كما يداعب النعاس جفونه المتكحّلة، لحية قانئة، صفراء أطرافها، تعلّق بشعرها الأشعث ما تبقى من طعامه القديم، يكبّر مرة، ثم مرّات، ينظر حوله وقد بدا مشتة الفكر مرتبكا، اعتلى في حركة سريعة ربوة من التراب والصخور وطفق يخطب في الناس بصوت عال :
– يا قوم.. لقد وجدنا بالأمس أحد الموتى وهو جالس.. إنها مشيئة الله القادر على كل شيء.. يحيي العظام وهي رميم..
ينقطع عن الكلام برهة ثم يتأمل بعيدا هناك وقد أصبح المكان الذي يحيط بالقبر قفرا، يلتفت إلى أحدهم ويهمس له :
– ماذا وجدوا في القبر .. ؟ هل حقا وجدوا الميت حيا يرزق..؟
لا تطرق همساته الفاترة آذان الحاضرين ، تحمل الرياح الدعوب همساته بعيدا فلا تطرق الأسماع ، وجوه عابسة، عيون جاحظة، نظراتها ثاقبة، يتقدّم أحد الصبية وقد التقط ذلك الهمس، يقول متلعثما وكأن لسانه قد انعقد عن الكلام :
– نعم.. نعم.. لقد وجدوا الميت حيا يرزق.. لقد خرج للتو يجري وغاب بين الحشود..
يجذب الطفل نفسا عميقا وهو لهثان، تكاد أنفاسه تنقطع من شدة الخوف، تتوقّد عيناه تحت حاجبين غليظين يرتفعان وينخفضان في حركة عجيبة، يواصل حديثه المرتبك :
– نعم.. لقد رأيته بأم عيني وهو بجري والناس تجري من حوله هاربين وهم مرتعبون.. لقد سقط شيخ هنا.. وسقطت امرأة هناك.. وأغمي على امرأة أخرى عند ذلك المنحدر بمجرد أن رأته أمامها..
يقطع أحد الصبية كلامه وهو يقول متحمسا وقد علا صوته :
– نعم.. لقد رأيته أنا أيضا، يقفز بخفّة ورشاقة من مكان إلى مكان.. فوق القبور المكشوفة.. بين الكثبان والصخور.. وكأنه شبح من دخان..
ينظر الجمع إلى بعضهم البعض وهم متحيّرون، يتأمّلون الأمكنة وفي قلوبهم زيغ، يحملقون في الحفر والصخور والأتربة المتراكمة في كل مكان، ترتفع أبصارهم إلى السماء وهم يختصمون، لا تهدأ حركتهم ولا تستكين، يخرج الرجل ذو اللحية الحمراء المصبوغة بالحنّاء من مخلاته كتابا قديما تآكل غلافه، يضعه تحت إبطه المتعرّق، يتحرك في خفة ويعتلى كثيبا آخر من الرمال ثم يخطب في الناس من جديد :
– يا قوم.. لقد حقّ عليكم العذاب.. تأتون الفواحش ولا تنهون عن المنكر.. لقد كشف الله لكم معجزاته وأنتم غافلون.. صمّ بكم عمي فأنتم لا تبصرون.. الأموات من الأجداث أمام أعينكم أحياء يخرجون، وآخرون في قبورهم جالسون.. أما الأتقياء الصالحون.. وأما الأتقياء الصالحون.. فقد وجدناهم بعد عشرات السنين لم يمسسهم سوء.. وكأنهم في قبورهم نائمون.. هؤلاء هم المتقون.. هؤلاء هم الفائزون..
ينظر إلى الناس من حول، وقد كثرت حركتهم وارتفعت جلبتهم، يتبادلون النظرات، يتهامسون حينا ويتجاهرون حينا آخر، في عيونهم حيرة وعلى وجوههم وجع وأنين، يقترب الرجلان صاحبا المعاول والفؤوس من المكان، تلتفّ حولهما الجموع وعلى وجوههم سؤال وسؤال، يقترب صاحب اللحية منهما، يواصل خطبته التي بدأها منذ حين بأكثر حماس :
– ها قد حل بيننا الشاهدان، سوف يحدثاننا عن الميت الذي خرج للتو من قبره لا يلوي على شيء، ليذكراننا بقدرة ربكم الأعلى.. يحيي العظام وهي رميم.. لابد أنهما قد شاهدا أيضا الميت الذي وجدوه جالسا.. وآخر وقد كسا الله عظامه لحما وقد لبث في لحده سنين عددا..
تنفتح العيون والآذان على آخرها وكأنها تنتظر الخبر اليقين، يجلس أحدهما على كثيب مهيل، بيده حذاءه الممزق وبيده الأخرى قطعة مبللة من القماش المتسخ يمسح بها وجهه المتلبّد بالأتربة والعرق ، في حين وقف الآخر بجانبه وهو لا يزال يلهث وقد احمرت عيناه وكسا العرق جبينه ووجهه، يأخذ نفسا عميقا، ينظر إلى المكان مشيرا بيده إلى القبر قائلا :
– لم نكن ندري أننا سنجد الجثة على تلك الحالة التي عليها من التعفن.. متحللة في الصندوق الخشبي بعد كل هذه السنين.. لقد انفجر الصندوق بعد أن قسونا بفؤوسنا على ألواحه المهترئة.. لقد كان الصندوق منتفخا بالغازات المتعفّنة لذلك الميت.. إنها روائح لا تطاق.. لقد خلت نفسي مفارقا للحياة من شدة فظاعة تلك الروائح المنفّرة وتلك القاذورات المقززة المنحبسة داخل الصندوق..
لم ينته بعد من كلامه حتى تدخّل صاحب اللحية وقد بدت على جسده ارتعاشة قوية وارتسمت على وجهه علامات الغضب الشديد وصاح قائلا :
– هل تريد أن تنفي معجزات الله ..؟ لا حول ولا قوة إلا بالله.. لم تخفي على الناس حقيقة ما وقع..؟ إن أنتم إلا في ظلال مبين..
يستقيم الحفّار في جلسته وقد تملّكه الغيظ، يصيح بصاحب اللحية الشعثاء وقد تلاحقت كلماته وتطاير الزبد من فمه :
– هل أنت جاد في كلامك أيها الرجل..؟ من أين أتيت بهذه الخرافات..؟ أي ميت صحا من موتته..؟ وأي ميت وجدناه جالسا..؟ وعن أي ميت تقول بأننا وجدناه مكسوا بلحمه..؟ كفاك هراء يا فتى.. وكفاك تخريفا.. لقد هربنا من شدة الروائح الكريهة القاسية المنبعثة من ذلك القبر وليس هنالك أي شيء مما تدعي..
يلتفت أحدهم إلى صاحب اللحية مبتسما وقد بدا رجلا جميل المنظر أنيقا، يقول له بصوت هادئ رصين :
– إنك لم تكن منذ البداية في هذا المكان.. لقد رأيتك وأنت تأتي من بعيد تسرع الخطى، وها أنت تحدثنا بخرافاتك دون أن تتثبت في الأمر..
بهت صاحب اللحية وهو هزيم، يرتبك وهو ينظر إلى الجموع وهي تتفرق حينا بعد حين، يزمجر بشدة وقد تشنّجت أطرافه، يضع كتابه في مخلاته وهو ينظر إلى الجموع وقد انفضوا من حوله كل إلى شأنه وتركوه قائما، ينزل من الموضع المرتفع الذي وقف عليه، تتسارع أنفاسه، ترتعد أوصاله، يسرع وهو يغادر المكان، يصيح وقد تداخلت كلماته واختلطت حروفه حتى أنها أصبحت كاللغط :
– لقد حبطت أعمالكم في الدنيا والآخرة .. إن أنتم إلا خاسرون..
يخرج وهو يتعثر في ثوبه، ينشّ بيديه الصبية الذين هم في طريقه، يتمتم بصوت مسموع :
– الكافرون .. الكافرون..
– الكافرون .. الكافرون ..