الأستاذ وحيد لجمي/ تونس
غياب أبدي للعم يوسف، كان يلزمه زمنا طويلا وتجارب أخرى ليفهم بأن الذي حدث للشيخ يوسف إنما هو الموت، ذلك الشيء الغريب الذي يغيّب الأشياء وإلى الأبد، لقد استطاع أن يفهم ذلك ببطئ شديد عندما كان يزور المقبرة القريبة من البيت حيث دفنت جدته في زمن غابر لا يذكره ولا يستحضر أحداثه.
كثيرا ما كان يتردد على ذلك المكان الغريب، صمت يلفّ المكان الفسيح طولا وعرضا، كثبان رملية عملاقة تحدّ المكان من كل الجهات، ينبت عليها وعلى جنباتها نبات التين الشوكي العملاق وقد تشابكت سيقانه لتكوّن سورا منيعا، أشكال وكتل من الإسمنت ومن الحجارة المطليّة بالطلاء الأبيض الناصع والأبيض الذي محا الزمان لونه الأصلي أو ما تبقى من لونه لتغدو الأشكل لا شكل لها والألون لا لون لها، تلك الحجارة البيضاء المنتصبة كالأشباح المحنّطة، إنها القبور، لا شيء يشعر بوجودها وانتصابها غير صفير الرياح وحركاتها الراقصة بين جنباتها، صفير لا يهدأ ولا يستريح، وكأن ماردا حزينا لا يتعب من النفخ في الصور فيصدر صوتا ذابلا حزينا يحوّل كل الأشياء إلى مجرد سراب وغياب.
كثيرا ما تردد على هذا المكان الغريب صحبة والدته لزيارة جدته والترحّم عليها، وعندما ألف الطريق أصبح المكان مناسبا لاستعراض ما حفظه من آيات قرآنية في الزاوية وفي مسجد الحي والذي التحق به لحفظ القرآن منذ أن دخل سنته الأولى بالمدرسة، كثيرا ما قيل له أنه يجيد تلاوة القرآن بصوته الرقيق الناعم، وكثيرا ما تكررت على مسامعه أن لقراءة القرآن أجران كبيران، أجر في الدنيا وأجر في الآخرة.
لم يكن يدرك حقيقة معنى الأجر، ولا أي أجر هذا الذي سيتحصّل عليه في الدنيا وفي الآخرة، لم يكن يفهم أصلا معنى الآخرة، كل ما استطاع تملّكه في ذلك الوقت المبكّر من حياته هو ما يتحصّل عليه من الملاليم القليلة مقابل ما يقوم به من تلاوته لآيات قصيرة وسريعة على قبور الموتى أيّام الخميس من كل أسبوع أو في بعض المناسبات الدينية، حيث تغصّ المقبرة بالزوّار ويصبح أجر الدنيا في متناول الصبية والشيوخ الذين يتجوّلون بين القبور ذهابا وإيايا وهم يحملون مصاحفهم المهترئة يلوّحون بها للجالسين حول القبور حينا ويجعلونها حجبا تغطي رؤوسهم من أشعة الشمس الحارقة حينا آخر.
كثيرا ما كان يخرج من المنزل وهو متجه إلى ذلك المكان خلسة خيفة أن يعلم أبوه بصنيعه، المصحف بين طيّات ثيابه، والقبّعة محشوّة في جيبه إلى أن يحتضنه الشارع ويختفي داخل أزقته الضيقة ويشعر بالانعتاق والأمان، يطلق ساقية للريح، تحمله أمواجها على جناح السرعة وتلقي به بين أحضان الحنين.
لم يكن يرغب أن يجعل من ذهابه إلى المقبرة عملا يسترزق به لولا تلك العجوز التي طلبت منه ذات يوم بأن يقرأ على قبر زوجها ما تيسّر من الآيات البيّنات، فعل ذلك عن طيب خاطر، كان سعيدا بما أنجزه من صنيع، إلا أن العجوز أصرّت بعد أن أتمّ القراءة أن تمنحه بعض من المال، شعر آنذاك بالإحراج وامتنع عن قبول ذلك الأجر الزهيد بشدّة، إلا أنه قبله في الأخير عن مضض بعد إلحاح شديد من العجوز وبعد أن أعلمته بأن الرحمة التي ستخفّف على زوجها آلام الموت وعذاب القبر ستبقى معلّقة بين السماء والأرض إلى أن تسدّد أجرة من قرأ على زوجها تلك الآيات.
قبل ذلك الأجر وهو يعتقد أنه يقوم بجرم تجاه هذه العجوز المسكينة دون أن يكون قد اقتنع بقصة الأجر المعلّق بين السماء والأرض، لم يفهم كيف يمكن لذلك الأجر الذي تتحدث عنه تلك العجوز أن يكون مرتبطا بشخص ما، وكيف يقتنع الكثيرون أن قرارت الله تتوقف على تصرفات هذا أو ذاك؟ هل يعقل أنها تعتقد كل هذا الإعتقاد بأن زوجها قابع في أسفل تلك الحفرة يعاني الويلات من معذبيه ومغتصبيه وأن خلاصه ونجاته سيكونان على يديه ؟
تتبعثر تلك الأسئلة كلما فكّر بها، لا تترك له سوى مزيجا من الأحاسيس الغريبة، أحاسيس تتجاذبها الخيالات والأوهام والخرافات، ويتواصل هذا العمل البسيط، ليس حبا في تلك الملاليم القليلة التي يتحصل عليها، ولا اقتناعا من أنه الفارس الذي أنقذ ذلك الرجل المسكين من نقمة معذبيه وأمثاله من الراقدين تحت التراب، بل تعلقا بإعجاب الناس بصوته وأناقة ترتيله، فقد كان يشعر بالفخر وهو يواجه بكل ذلك الإعجاب والإطراء بعد كل آيات بينات من الذكر الحكيم.
لازمته طويلا فكرة الأجر المعلّق بين السماء والأرض، وآلام الموت، وقصة عذاب القبر التي كثيرا ما كانت تتردّد على مسامعه من حين لآخر على لسان بعض الشيوخ أيام الجمعة أو من بعض المتحدثين في المسجد ومن القابعين أمام الدكاكين أو أمام بعض المقاهي الصغيرة، قصص وروايات وخرافات صنعت بين الجدران المتآكلة وتحت الأسقف المتداعية، أبطالها من الملائكة والشياطين ومن الأموات المساكين، أموات لم تكفهم مرارة الفراق إن كانوا قد أحسوا بها، ليزدادون تقتيلا وتمزيقا وتنكيلا وحرقا وهم لم يبارحوا قبورهم بعد ليوم الحساب وكأن الله ليس برحيم ولا مهمة له سوى التنكيل بهؤلاء المساكين وهم في قبورهم وليجعل منهم ألعوبة بين ناكر ونكير، كثيرون هؤلاء المنتشرون فوق القبور وهم منزعجون مضطربون يلهثون جاهدين، يرجون إنقاذ من لديهم من الراقدين في الحفر المظلمة من براثن العابثين، لا شيء يمنعهم من دفع المال وتوسّل المرتّلين من أجل الخلاص الأخير.
كثيرا ما كان يتساءل عن ذلك الكمّ الهائل من العذاب الذي يدّعون ويتخيّلون، وعن أهواله وأسبابه، وهو الذي كان يسمع الشيخ يوسف وهو يردد دائما بأن الإنسان مسير وليس مخيرا، كان يندهش من هؤلاء الذين يدّعون أن الله يبعث بالشيطان إلى معشر البشر ليغويهم ويسقطهم في الرذيلة ثم يقوم بتعذيبهم لأنهم اتبعوا قول ذلك المارد اللعين أو ينسون بأن الله هو الذي يضل من يشاء وهو الذي يهدي من يشاء.
لم يكن يفهم في ذلك الوقت الكثير من هذه المواضيع المعقدة، إلا أنها كانت تربك فهمه الصغير وتجعله يتيه في كثير من الصور الشاحبة والخيالات الحائرة، إنها القصص التي كانت تحيّره وتحوّل كل الأشياء الجميلة من حوله إلى أشباح وعفاريت، لقد كان يعرف أن الكثير منها هي من لغط العجائز وهذيان الشيوخ.
كانت أصوات وصور تلك الأشباح تلاحقه وتكتم على أنفاسه حتى الاختناق، لم يكن يخاف تلك الأساطير، أساطير الأولين بما فيها من قصص غريبة ومرعبة بقدر ما كانت تحيره الخرافات والأوهام التي تسكنها وتحوم حولها.
تواصلت علاقته بتلك المقبرة لزمن من الطفولة طويل، يخال أنه يزور في كل مرة صديقا مقربا إلى قلبه وليس مجرد مقبرة في الحي، يتردّد عليها أيام الأعياد الدينيّة وكلما سنحت له الفرصة لذلك، كانت مفاجأة قاسية جدا يوم أن ذهب إليها كعادته ولكنه لم يجدها، لم يجد أي شيء بها، لا قبور ولا حجارة، لا علامات ولا أسماء، لا شيء يشير إلى أنه كان هناك بالمكان قبور وأموات، مكان مختلف تماما لم يعهده من قبل، طفق يبحث عن قبر جدته كطفل أضاع أمه، لم يجد سوى أكوام من رمال وبقيا من الحجارة المهشمة، لا أثر للقبر ولا للجدة، تأكد عندها بأن جدته قد تلاشت من الوجود وأنها ماتت من جديد، لتفارق الوجود الفراق الحزين والأخير.
خرج من المكان وقد قيل بأن بلدية المدينة هي التي قامت بذلك العمل الشنيع من أجل بناء مدرسة للأطفال، غادر المكان وهو يعتقد في النوايا الحسنة، غادره حزينا ولم يعد إليه بعد ذلك اليوم، انتهت قصة التراتيل وانتهت قصة العجوز صاحبة الأجر الزهيد، وانتهت قصة أجر الدنيا وأجر الآخرة وانتهت صور الأموات المعذّبة تحت الأرض وتلاشت الأشباح والأرواح، كل القصص والمغامرات التي عاشها في تلك المقبرة الغابرة أصبحت في طي النسيان، بنيت المدرسة بعد زمن ليس بالطويل وأصبح يؤمها الأطفال والمعلّمون، كثيرا ما كان يروى عن تلك المدرسة حكايات غريبة وغريبة جدا أبطالها من الأشباح والعفاريت، لقد قيل إن كل المعلمين الذين يلتحقون بالتدريس في تلك المدرسة لابد من أن يفقدوا أحد والديهم أو أحد أقاربهم المقربين، لم يكن ليصدّق تلك القصة الغريبة إلى أن التحقت أخته الكبرى للتدريس بها وكانت السنة التي رحل فيها والده وإلى الأبد.
تتسارع دقات قلبه وهو يستذكر كل تلك القصص بتفاصيلها الدقيقة، يشعر بالإختناق داخل حصار من ذكريات يزدحم بها خياله الصغير، تعود الروائح الكريهة لتملأ المكان، أحس وكأنه كان في سبات عميق، تعود عيناه وجميع حواسه من جديد لتمارس لعبة الحياة، يشعر بالدوار وبالغثيان، إنها الروائح الغريبة التي تنبعث من داخل الحافلة المزدحمة لتعدم أنفاسه الرقيقة الحالمة، هي ذاتها الروائح التي تخزه في كل مرة، تربك أحاسيسه الرقيقة، تجذبه إليها وتعود به إلى ذات المكان المقزز الذي لم يبارحه بعد.
ظن وكأنه غاب لسنين عن المكان، هكذا تفعل به الذكريات دائما ويفعل به الزمان، يحمله من مكان إلى مكان، هي رقصة الذكريات العابثة بتلك السنين العابرة التي كان يشعر فيها بأنه يراقص وجوده الأزلي دون انقطاع، هي الذكريات العابثة بكل الأمكنة، تحطم الحدود وتمزق كل الفواصل الممكنة.
ينتابه إحساس غريب وهو يغادر ذكرياته تلك ليجد نفسه في الحافلة، يعيش تجربة يوم من أيام الحشر، لم يتغير أي شيء في ذلك المكان الغريب، ينظر إلى أبيه واقفا في مكانه لا يبرحه، كل شيء بقي على حاله، أجمل صورة في ذاك المكان المقزز صورة والده ينظر إليه بعينين حالمتين، يتأمل ابتسامته الرقيقة، يمد يده ليتمسك بطرف ثوبه، يلزم الأب الصمت ولكنه يسترجــع صدى صوت والده وكلماته التي بقـــــيت تتردد على مسامعــــه عندما قـــال له منذ حين :
– انتظر قليلا.. سوف يخف الزحام.. نحن نقترب من محطّتنا..
شعر بتلك الكلمات مرسومة على تعابير وجهه الجميل وفي تلك الإبتسامة الحالمة، ولكنه كان يدرك أن الطريق مازال طويلا وشاقا، الزحام كما هو لم ينقص منه شيء بل أحس أن الاختناق داخل الحافلة قد زاد وازداد، والمحطة لم تقترب، بل خيل إليه أنها تهرب كلما قطعت الحافلة مسافة أخرى نحو البيت.
لعبة التذكر مسلّية وممتعة، إنها ملاذه للخلاص من ذلك الواقع المقرف، إنه يجد فيها شفاء لروحه المتعبة وسط تلك الأكوام المكدّسة من الصور الحزينة والأفكار المؤلمة، حركات وتصرفات مقزّزة تصدر من حين لآخر من راكبي تلك الحافلة البالية، أصوات غريبة مقرفة ونظرات مستفزّة وأخرى بلهاء، الهروب نحو الذكريات والانغماس داخل مخيلته النابضة أفضل ما يمكن أن يفعله في مثل تلك الحالات، إنهما الطريق الوحيد للخلاص.