الأستاذ وحيد لجمي/ تونس
توقف قليلا وهو يقرأ أحد التعاليق على إحدى صفحات الفايسبوك المجهولة الهوية والمتناثرة هنا وهناك في فضاء افتراضي غريب، متأملا العبارات المتكسرة الشاحبة وكأنها تصوّر تفاصيل ملامح وجه كاتبها وتاريخ وجوده، تتحدث بلسان متعثر مختنق، يكاد الصمت أن يخيّم عليها ليحوّلها إلى مجرد كلمات دون معنى، لقد خيّل له وهو يستقرئها أنها غارقة في المعنى حتى أنها أعطت كل ما لديها واخترقت كل جدران الصمت والغياب والاشتياق والأسى الذي يسكن أعماق وجوده الحزين.
تراءت له أنها أمنية عابرة، ولكن ذاكرته المزدحمة بالقصص والأحداث والروايات حوّلتها من مجرد أمنية مغلّفة بكلمات عابرة حزينة إلى بركان يزعزع كل أركان وجوده الملغز.
بدأ يقرأ الكلمات المكتوبة متهجّيا إيّاها وكأنه لم يفقه القراءة يوما :
- كم اشتقت إليك با أبي.. وكم أود أن أراك..
كانت تلك هي الكلمات المخطوطة المبعثرة، اللاهثة وراء أمل واهم يسكن الأفق البعيد كما تراءى له ذلك، ابتسامة حزينة ارتسمت على وجهه الذي بدا وكأن التعب قد أصابه فجأة، تتحول عيناه عن شاشة حاسوبه الصغيرة اللامعة الملقاة بين يديه لتحدّقا إلى الحائط الأبيض المنتصب أمامه وكأنه شاشة عملاقة تنتظر الأضواء والألوان لتحوّلها إلى مشاهد وحكايات وروايات، بين شاشة حاسوبه والحائط الأبيض الذي أمامه زمن قد امتدّ ليصبح سنوات طويلة بعدد السنين التي أدخلت الشيب إلى رأسه الأنيق، يحوّل نظراته من الشاشة إلى هناك، إلى ذلك الحائط القريب، وقد ارتسمت عليه صور داكنة وظلال قاتمة آتية من ذلك الزمن الغريب، أو هو حين من ذلك الدهر البعيد.
لم يكن الرأس وحده هو الأنيق، قيل بأنه رجل أنيق في كل شيء، لقد كان يسمع دائما تعليقات متكرّرة متشابهة ممن عاشروه أو جالسوه أو تقرّبوا منه، يقولون عنه دائما بأنه رجل وسيم، تقترب ملامحه الرقيقة وتفاصيل جسمه النحيف من ملامح الرجل الأروبي، حتى أن البعض من أصدقائه في باريس أين كان يواصل دراسته العليا لم يكونوا ليصدقوا بأنه عربي ومن أصول عربية، لطالما كان يؤكد لهم على خلاف ما كانوا يعتقدون، بأن في مدينته الكثير والكثير من النساء والرجال أكثر وسامة وجمالا من نسائهم ورجالهم في مجتمعهم الأروبي، كثيرا ما كان يمازح رفيقاته ورفاقه في كل مرة بهذا الحديث ويحلو له أن يكرّر على مسامعهم ذلك بمناسبة وبغير مناسبة، بأنه العربي الوسيم، العربي الذي يعتزّ بعروبته ويتباها بها أمام رفاقه الأوروبيين.
لم تكن تلك هي الحقيقة التي يضمرها، لقد كان يشعر أن النقائص في مجتمعه العربي وفي ثقافته الإسلاميّة لا تحصى ولا تعد والبعض منها أصبح كالمرض الخبيث لا دواء له، ولكنه كان يشعر بوجوب مواجهة تلك الانتقادات الظاهرة منها والباطنة بتلك النخوة المزعومة بانتمائه إلى مجتمع عربي مسلم، كان يعلم جيدا أن الجمال والأناقة ليسا حكرا على مجتمع معين أو على فرد معين، بل هو سلوك ووعي بقيمة الذات.
لقد كانت أمه تذكّره في كل مرة بحسنه وأناقته عندما كان صغيرا وكذلك وهو شاب في مقتبل العمر، لم تكن تبخل عليه في كل مرة لتسرد على مسامعه حادثة كان هو نفسه يطنب في ذكرها كلما سنحت له الفرصة.
لقد كان محبّا للقصص والروايات، مغرما بالنبش وراء الأحداث، بل كان عاشقا للتاريخ منذ نعومة أظفاره، ولولا أنه تابع دراساته الجامعية في الفلسفة لكان بحث له عن موقع آخر داخل التاريخ حتى وإن كان ذلك الموقع مجرد تمثال أثري مجسد يقبع في أحد الأمكنة الأثرية وليكون كتلة من الجماد يروي للناس أساطير الأولين.
لقد كانت تقول له أمه بأنه كان طفلا جميلا وجميلا جدا، حتى أن أحد قريباته في إحدى القرى المجاورة للمدينة التي يسكنها وفي أحدى الزيارات المتبادلة أطلقت عليه لقب الغزال الصغير، وكثيرا ما كانت تردد ذلك النعت عند مرآه وهي تخاطب أمه :
- ما هذا الغزال الذي أنجبت..؟
تقول ذلك لتعبّر عن شدة إعجابها وانبهارها بجماله الطفولي الملائكي والذي قد يندر وجوده في قريتها تلك.
لقد كانت أمه تروي له هذه الحادثة وبين الفم والعين ابتسامة ناعمة رقيقة ودمعة ضاحكة، تذكّره والألم يعتصر الفؤاد بأنه أوشك على الموت في تلك الليلة المشؤومة، وتهمس في أذنه وهي تغمغم وكأنها لا تريد أن يسمعها أحد سواه :
- حتما لقد أصابتك عين في تلك الليلة يا ولدي..
وتختم كلامها بضحكة رشيقة مرددة :
- الله حق والعين حق..
مازال يتذكّر تلك الكلمات، والكثير منها والتي بقيت راسخة في ذاكرته المزدحمة، ذاكرة لم تجد لها من منفذ لتلقي ما بلي من الذكريات وما انفطر، صور متشابكة متراصّة تأبى أن تترك مخيّلته، أو هو ذاته يأبى أن يتركها خوفا من أن يبتلعه النسيان في زحمة الحياة، إنها مصدر حقيقي لسعادته التي أصبحت تترنّح في كل حين تحت وطأة الصور المتواترة وفي أمكنة باتت الوجوه فيها مكفهرة عابسة.
أصبحت الأحداث في مخيّلته المترامية الخصبة كما الأزمنة، تتموقع في كل مكان من رأسه، هو يشعر الوجع في جسده كلما مرّت بذاكرته إحدى تلك الصور كيفما كانت وكيفما حلّت، كثير من الصور بأشكالها وألوانها تحلّت بحلّة جميلة وممتعة، وجاء البعض الآخر منها قبيحا كقبح القبور التي لفظت أمواتها.
جاءه الصوت بعيدا ثم متقاربا ثم قريبا جدا ليرتطم بأذنيه كما لو أنه يسمع نبرات ذلك الصوت لأول مرة، يناديه باسمه، هو فعلا اسمه الذي يسمع، تتحرك شفتاه بهدوء شديد، أخذ يردد اسمه مع المنادي لعلّه يتذكّر من يكون ذاك الذي يناديه، لمن هذا الصوت الرقيق القادم من أعماق الزمان، يشخص ببصره متفحصا الحائط الأبيض المنتصب أمامه وكأنه يبحث عن صورة أو خربشة تساعده على التذكر، أنزل رأسه ببطئ شديد وهو يشعر أنه بات ثقيلا جدا على كتفيه ثقل تلك الذكريات، وهمس في نفسه وقد تبددّت النظرة الثاقبة لتتحوّل إلى ابتسامة خفيفة موشّحة بخيوط رقيقة من الألم والحزن، ترتسم على شفتيه الناعمتين وهو يقول :
- إنه صوت أبي رحمه الله..
هكذا كان أبوه يوقظه صباح كل يوم أحد، يناديه ويناديه مرارا وتكرارا ويلحّ في مناداته حتى يجبره على النهوض، يجلس في سريره مترنحا، يرغب في العودة للنوم، إلا أن صوت والده ورغم نعومته يمنعه من غفوة أخرى ولو كانت قصيرة.
ذلك هو يوم الأحد، إنه يوم التسوّق، لقد كان يشعر أنه يوم من أيام الحشر، يبدأ بعذاب النهوض باكرا وينتهي في سوق مزدحمة لا تجد الساق فيه من موضع سوى الساق الأخرى، كان ركوبه الحافلة أكثر شيء قد ينسيه تلك البدايات المتعبة في صباح باكر وبارد.
ينظر من خلال نافذة الحافلة الضيّقة المتسخة متأملا البيوت الصغيرة والأشجار الفارعة تمر مسرعة متلاحقة ليرتمي بعضها فوق بعض حتى أنه يخالها هاربة من زحمة السوق الذي يسرع هو إليه مكرها، لم يكن والده ليتركه يتجوّل معه كامل الوقت وفي مختلف أزقة وأنهج السوق الضيقة، لم يكن ليحمّله أكثر فأكثر عناء التنقل من مكان إلى مكان متعثرا بين الأرجل الطويلة والسيقان الغليظة.
كان طفلا نحيفا، أنيقا جميلا، لا يشبه في السوق أحدا أو هو الذي كان يخيّل له ذلك، كانت نظرات المارة المحدّقة بجسمه الصغير تجعله يـسأل نفسه دائما عن سبب تلك العيون المتفحّصة المتّجهة نحوه من كل صوب وفي كل حين.
أخذ مكانه كما العادة تحت الحائط الضخم، هو الأب الذي كان يوصيه دائما بالانتظار في ذلك المكان المعتاد إلى أن يعود إليه محمّلا بما يقتنيه من داخل السوق من حاجيات، يضع القفة الكبيرة بين ساقين نحيفتين وحذاء أسود منهك يظهر من تحت سرواله القصير، ينظر إلى المارة، يلتفت يمينا ويسارا وبصره على تلك القفة لا يفارقها طرفة عين رغم أنها لم تزل فارغة، كان ينظر دائما إلى الوجوه التي تمرّ أمامه يتفحصها وهو يسأل عمّا تخفيه من قصص وحكايات وأسرار، وجوه ناظرة وأخرى باسرة، ووجوه فاترة حائرة، عيون جاحظة متوتّرة وأخرى غائرة هادئة.
لقد كانت تلك هي هوايته المفضّلة في السوق، كما أنها كانت طريقته لطرد إحساس الرهبة الذي ينتابه في كل مرة في ذلك المكان المزدحم، كثيرا ما كان يشعر بالوحدة والخوف في عالم يعجّ بالحركة، حركة محمومة تصوّر له مشهدا من مشاهد يوم البعث، عبق القصص والخرافات يفوح من كل ركن من أركان السوق ومن كل زقاق من أزقته الضيقة، ينتابه إحساس عميق بأنه يعيش ملحمة من تلك الملاحم التي كان يشاهدها في المسلسلات التاريخيّة أو الدينيّة، يعرف جيدا أن الوجوه التي يتأمّلها والأجسام الغريبة التي تمرّ من أمامه هي التي كانت تأخده عنوة من عالمه الطفولي البسيط إلى عالم الخيالات والمغامرات، ولكنه كان يتلذذ بتلك المشاهد رغم رهبتها وغرابتها، فهي مصدر تسلية له إلى أن يعود والده من داخل السوق.
تأخذه الصور والحركة الدؤوبة التي لا تهدأ ولا تستكين، تلهيه الألوان المختلفة المتموّجة والأشكال المتكسرة المبعثرة، تقترب وتبتعد وكأنها تداعب حسّه الطفولي الرقيق، فجأة يأتيه صوت ينبعث من بين طيّات الجدران المتداعية ومن أعماق المكان، هو ذاته الصوت الذي ألفه منذ مدة في ذلك المكان وفي مثل ذلك الوقت، إنه البائع المتجول الذي تعوّد على سماعه كل يوم أحد، في المكان ذاته وفي الساعة ذاتها وكأنهما على موعد دائم ليلتقيا، لقد قال له أبوه ذات مرة بأن هذا البائع لا يفارق السوق أبدا، صوت حاد يقتحم أذنيه الكبيرتين اقتحاما مرعبا ليشتت عليه تركيزه ومتابعته للحكايات والقصص المرسومة على الوجوه العابرة :
- فلاّيات.. فلاّيات.. آباري بابور.. آباري بابور..
ثم يذوب الصوت وسط ضجيج السوق، تمر لحظات قصيرة جدا ليعود الصوت من جديد مخترقا السوق طولا وعرضا بنبرة أكثر حدة :
- فلاّيات.. فلاّيات.. آباري بابور..
يخيّل له في تلك اللحظة أن صوت البائع الحاد وقد غلب عليه الخنف يوازي كل ما في السوق من ضجيج وصخب، لقد كان يسمع دائما نفس الصوت ونفس العبارات، كلمات تسابق كلمات، وكلمات أخرى يلاحق بعضها البعض حتى أنه لا يستطيع تمييزها، لم يكن يفهم الكثير من صياح هذا البائع المتجول، إلى أن يقترب الصوت أكثر فأكثر، يمر الرجل من أمامه متعثرا مرتطما بالمارة مرة ثم مرات، يلاحق خطوات هذا البائع الأعمى وهو يردد بصوته الحاد نفس الكلمات، نفس العبارات، إلى أن تتبعثر الحروف بين أصوات مرتفعة وأخرى منخفضة، تتكسر العبارات، ثم يتلاشى البائع وسط الزحام وتتلاشى من أمام عينيه صورته ومعها ألوان داكنة وأصوات غامضة، يتحوّل كل شيء إلى سراب وفراغ، تسقط كل الصور داخل كتل شاحبة من الألوان المتراصة هناك، وتعود صورة السوق وقد تدافعت فيه كتل الأجساد والغلال والخضار متقاربة حينا ومتباعدة حينا آخر.