الأستاذة سعاد فقي بوصرصار/ تونس
لست أذكر كيف تعلمت الرقص ولكنني كنت أرقص منذ نعومة أظفاري.
أذكر صويحبات أمّي عندما يلتقين عندها في الأماسي يشربن القهوة ويثرثرن و يستمعن الى الموسيقى وهن غارقات في الارائك في الصالون المطلّ على الحديقة ضجرات.
كنّ يطلبن منّي أن أرقص لهن فأمدّ جذعي وأضع يدي اليسرى على خصري وارفع يدي اليمنى وأتلوى وخصلات شعري الحريري تتساقط على جبيني فأهزّ رأسي الى الوراء كمهرة جامحة وأ رفعها وأخبط الأرض بساقي القصيرتين على وقع تصفيقهن وتشجيعهن والموسيقى المنبعثة من جهاز التسجيل
كان هذا يقع في غياب أبي عن المنزل طبعا.
وفي المدرسة الابتدائية كنت ارقص لأصدقائي في أطراف الساحة أو في قاعة منعزلة عندما تغفل عنّا عيون الكبار كأن يتأخر المعلم أو تغيب المعلمة.
أرقص في حديقة البيت وفي المطبخ وفي غرفتي وفي الصالون أذا كان فارغا أرقص عندما أفرح أرقص عندما أغضب أرقص عندما أتوتر أرقص عندما أضجر أو أتمرد…
كأنّني أرغب في استخراج شيء ما في قلبي أحسه ولا أستطيع التعبير عنه بالكلمات… كان الرقص فرصتي للانعتاق من العيش في اسرة مترفة تغلب عليها الرتابة في كل شيء وتخاف من التغيير
ما إن اسمع الموسيقى حتى يهتز جسمي أمدّ قامتي وارسل قدما في اثر الأخرى وارفع يدي وأدور خفيفة كالخطاف واقفز واحرك راسي وكتفي وأدقّ الأرض برجلي واشعر بسعادة لا عهد لي بها وتتلاحق حركاتي ويصرخ الدم في شراييني فأهجم وأحجم وأميل الى اليمين ثم الى الشمال والراس مرفوعة والضحكة مرسومة والفرحة طافحة وكل ما فيّ خفيف طائر حتى لكأنّني لا ألمس الارض.
وبعد البالكلوريا غادرت مدينتي لأدرس الحقوق في أعرق الجامعات تحقيقا لرغبة والدي وهناك اكتشفت مدارس للرقص ونواد لتعلّمه تلقفتني وفتحت لي أبوابها.
أهملت الحقوق ورقصت
رقصت بصدق وحماس. وتفجّر ما كان كامنا في نفسي من أحاسيس كسرت قيودي وانطلقت مسحورة أبحث عن صميم الأشياء في الحياة وعن الحياة في الحرية… أبحث عن الانعتاق من المواضعات البالية والتعريفات الجامدة وانفتحت أمامي آفاق واتضحت رؤى.
انقطعت عن عائلتي التي انكرتني ورقصت.
رقصت في بلاطات الملوك والرؤساء بمزاجي ورقصت لأغلب الشخصيات وأشهرها.
وملأت صوري شاشات التلفزات. وتصدّرت صوري أهم المجلات
وأُنيرت لى المسارح. وبسطت لي السجادات. ولكن نقطة سوداء كمنت في ركن ما في قلبي كشوكة تخزني… عدم رضى أهلي وعدم مشاركتهم لي نجاحاتي.
كلّما طفت الذكرى أُمعن في دقّ الأرض كأنّما لأوقظها واجتهد لأعطي أفضل ما في الرقص وأتحرّر وأمحو تلك النقطة وأنسى الم الشوكة…