بقلم الشاعرة والناقدة زينب الحسيني/لبنان
في صبيحة ذلك اليوم , نزلتُ إلى الحديقة وناديت زوجي جميل , وأختي هالة وزوجها , لنرتشف قهوة الصباح . شردت أتذكر ذلك اليوم المشؤوم ,الذي ابتدأ بقصف عشوائي مجنون ,ترك مئات السيارات محروقة تغص بمن فيها , وكأنهم قطع من الفحم الاسود ,والمذياع يقول: بدأت “حرب التحرير ” وقد حصد القصف مئات ِالقتلى والجرحى … أسبوع ٌقضيته وعائلتي نعاني آلام الموت والقصف الهمجي والجوع ,لم نترك الملجأ لحظة واحدة, عندما اقتحمت بيتنا قذيفة صاروخية نشرت أثاث الغرف أشلاءً أشلاءْ . بعدها لملمت أجزائي وجررت نفسي كسلحفاة وقررنا الرحيل عن بيروت قاصدين أختي هالة التي تسكن بعيداً عن “قصف بيروت” تسألني هالة : وهل عرفت شيئا عن أخينا سلام ؟ _ أِنه كعادته دائما يفضل الصمود في بيته , ولو تحت القصف ! المذياع يقول :يهاجرون كل يوم بالآلاف غير عابئين بالقصف ودماؤهم تنزف … وتطل سيارة عتيقة منخورة , فتقول هالة “أهلا بك سلام ,أنت دائما تمثل دور “جودو” خير تمثيل “. دهشت لاحمرار عينيه واصفرار وجهه ونحوله , فقلت له: وهل كان ضرورياً بقاؤك في مدينة أكلت جرذانها أبناءها؟ _أِنه الصمود يا أختاه ! لكن لا جودو ولا ملك جودو بيقدرو ببيروت يصمدوو!! كنت أعتصر جبيني بيدي بسبب الدوا ر الدائم الذي يصيبني, وقد نصحني الطبيب بالإبتعاد عن الأحزان وبالراحة , للتخفيف من ضغطيَ المرتفع .. في اليوم التالي اجتمعنا في نفس المكان ,الأخبار سيئة كالعادة والقصف يطال جميع المحاور , يعلق جودو بقوله هل تعرفون لماذا عرف اللبناني بانفتاحه على العالم منذ القدم ؟فأجبت بابتسامة :لأن أجداده فينيقيون .فأغرق بالضحك قائلا : أ يام المتصرفية ,هاجر ربع سكان لبنان بعد انقطاع أرزاقهم وبعد ما عانوا من ظلم جمال باشا السفاح وفتكت بهم الامراض وأكل الجراد كل خيراتهم . هوالتاريخ يعيد نفسه وبشكلٍ أفظع !! والجراد هذه المرة جرادٌ بشريٌ ذوغرائزَحيوانية شبقة ! يتحوَّل بيت هالة إِلى فندقٍ , والوفود تؤمه من كل حدب وصوب … لم يطق سلام المكوث طويلا ,فقرر العودة إلى بيروت تحت وابلٍ من القذائف ,وترك في قلوبنا أسىً وقلقاً على مصيره الذي أصبح على كف عفريت . كان الناس في ذلك الحين ينزحون عن بيروت بالآلاف , تائهين حائرين أين يبيتون ؟ انتشروا كالنمال على شواطيء البحر ,وعلى ضفاف الأنهار يفترشون الأرض ويلتحفون السماء ولا خبز يلتهمونه سوى خبزِ الهم والقلق والمذياع . توالت الأيام وصار الجميع يستفيقون مؤرقين يتساءلون: إلى أين المصير ؟ و أسائل نفسي أين ذهبتَ أيها ال “جودو “المرح وكيف ُقطعت بيننا كل الأِتصالات .حتى الطبيعة التي كانت تسعدني , لم تعد قادرة على فعل المستحيل ! وفي أحد مساءات الخريف ,جاء نبأ هدنة وافق عليها كل الأطراف لإنهاءِ القتال ,فارتسم بعض الأمان على الوجوه لكن أحداً لم يفرط في التفاؤل ..وعدت إلى بيروت, .يومان اثنان يمران , وأنتفض كالمارد الجبار ,أقول لنفسي : لا ! لن أموت بهذه السهولة ,لدي الكثيرُ مما يجب أ ن يقال.. وانطلقتُ أكتب بسعادة غامرة … كانت الأوراق لا تزال بيدي وعنوان ٌ كبير ٌ اسمه: ” دما ؤنا تنتظر السلام ” عندما دخلت زوجةسلام باكيةً تتلعثم وتقول :سلام اختفى منذ البارحة ولم نعثر له على أثر… المذياع يقول :اغتيل الرئيس الوفاقي الجديد… وانتفضتُ كمن لدغها ثعبان لا…وألف لا! لن أغير العنوان … في الغرفة المجاورة كان الصغار يهزجون ويرقصون , وصوت أوبرالي يعانق السماء : يا بيروت يا بيروت.. يا بيرووت ! ست الدنيا يا بيروت ..قومي .. قومي من حزنك قومي .. ..قومي من تحت الردم…