ذ. منير الجابري كاتب تونسي
بدأت الاشجار تتجرد من أوراقها ٠ تطايرت وتبعثرت لتبحث عن مكان تستقر فيه ٠ حين داهمتها رياح الخريف فجأة ؛مكث بعضها على الارض ؛ فآمتزج اللون الاصفر بالاخضر ٠
لأن الأعشاب فتحت فيها ثقوبا ؛ حتي تتطلع الى قطرات المطر ٠ أما الاوراق التي لم تستقر ؛ فقد داهمتها مياه الجداول لتحملها بعيدا ٠
تأملت سهى مراحل المشهد فآنتشت بما شاهدته ٠ فشعرت بالسرور ٠رفعت نظرها الى عصفور يغرد بطريقة مختلفة حتي يخطب ود أنثاه ، التي حطت فوق غصن الشجرة ٠ ثم سرعان ماعادت ببصرها الى موقع إنطلاق العصفور ؛ فوجدت شابا قد جلس القرفساء وهو منشغل بالهاتف ٠
ألقت بحجر في بركة الماء التي تجلس حذوها،٠ حتي تلفت نظره ٠ نظر إليها نظرت إليه ٠٠٠
إبتسمت له ،،إبتسم لها ٠ تبادلا النظرات
جعلت همس عينيها تشرق على وجهه ٠ فبدأت نسمات الحب تدغدغ إحساسهما ٠ لتبدأ رحلة جديدة ٠ تنطلق من أغصان الشجيرات لتمزق الضباب الذي طوق المكان ٠وهمس اليه النسيم ليحمله بعيدا ٠ كي يترك خيوط الشمس تنعش الأعشاب ٠
جلست سهى لحظات مع الشاب ثم غادرت المكان ؛ بعد أن آتفقا على موعد يجمعهما ٠ وهي تتمني أن يف بوعده
حتي تتخلص من أوثان الوحدة التي لازمتها منذ قدومها الى بريطانيا لآستكمال دراستها ٠ رغم أنها حققت كل أحلامها وطموحها،المهنية ٠ بيد أنها ظلت في شوق دائم الى الأهل والخلان ؛ الذين تركتهم في الوطن ٠
ربما هذا الشاب يطرد عنها شبح الوحدة حتي تعيش في توازن ٠
صمتت فترة قصيرة من الزمن ثم غادرت المكان ، كي تعود الى بيتها لتقوم بلوازم النظافة لأنها في يوم عطلتها الاسبوعية ٠آتجهت الى سيارتها وهي تتمتم بهاته الكلمات
-لم أعد صغيرة السن ، كما لم أعد أمتلك تلك القدرات القديمة التي تقوي من عزيمتي وأفكر في حبيب تركني وراح يبحث عن جميع الملذات والشهوات غير أنها كانت ملذات فارغة تافهة ؛ تنقضي سريعا ثم يعود ويعتذر !!
لقد تقدم بي العمر ولن أضيع هاته الفرصة التي يمكن أن تجلب لي السعادة والإستقرار ٠٠٠
مر أكثر من أسبوع عن ذلك اللقاء ولم تبادر ذلك الشاب بالإتصال لأن كبراءها لايسمح ٠
وفي اليوم الثاني من الأسبوع الثاني
كانت سهى منهمكة في تحضير ملفات العمل فجأة رن هاتفها
في البداية لم تعره اي آهتمام ٠ إلا أن الهاتف لم يصمت مسكته على مضض وردت ٠
إنه صديقها طوني تبادلا التحية وآتفقا على اللقاء بعد آنتهاء الحصة المسائية من العمل ٠بأحد المقاهي المعروفة ٠٠٠
مرت السعات مسرعة ٠ جلسا الصديقين في المكان المحدد
نظرت سهى الى طوني بآنتباه ؛ تبادلا الابتسامة وسلكا درب الحب نحو معانقة المستقبل ٠
كانت نافذة المقهي مفتوحة سمحت للنسيم بالتسرب حتي يداعب خصلات شعرها ٠ سالها طوني
– من أي مكان انت ؟
أجابته بلهفة
– بلدي اليمن وقدمت هنا للدراسة لكني وجدت عقد عمل،مغري ٠ لأن الحرب مزقت بقايا الوطن
رد عليها طوني
-تبا للحرب فهي تنشر المرض وتخلف الفقر والمجاعة وتترك البلد كالقارب تتجاذبه الرياح !!
مسك طوني سهى من يدها فأحست بجاذبية لم تشعر بلذتها من قبل ٠
مر الهزيع الاول من الليل كلمح البصر ٠ عاشته خلاله سهى أحلى لحظات الانسجام والحب ٠
غادرت المقهي وهي تعانق الاحلام ثم قالت لنفسها
– ربما يتوج هذا الخريف بما أنتظره منذ مدة ٠ بل منذ سنوات
ربما أتوج كما تتوج الزهرة التي تنتظر دموع السماء حتي تستعيد نظارتها الفائقة ٠
مرت ثلاثة أعوام سريعة في ظل حب لا يقبل الأفول ٠ غير أنها تعكر صفوها حين ألم بعائلتها حدثا جللا وهو موت وادها
فعادت مسرعة الى وطنها ٠ حين وصلت الى المطار وجدت أحد الاقارب ينتظرها ركبت السيارة نحو قريتها ٠
وتنظر من خلال نافذة السيارة الى مظاهر الخراب والدمار تتالي٠ هذه المشاهد المتكررة لم تحمل غير المرارة والاسي لها
عند وصولها الى منزل والدها لاحظت غياب بعض الاشخاص التي قضت معها الصبي والشباب ٠ جاءها الرد سريعا
– لقد رحلوا عنا الواحد تلو الأخر جراء الحرب !!!
بدأت الشمس تلملم بقاياها حتي يلف الظلام وشاحه على القرية التي تناثرت منازلها ولم يصدر منها إلا شعاع نور خافت يئن تحت وطأة الرياح ٠
آستلقت سهى على فراش والدها وتجولت في ربوع الماضي
فطاف بخاطرها تلك الأيام التي كان والدها يخوض المعارك الضارية لتواصل دراستها ٠ آجتمعت الدموع مع الذكريات ثم عادت لتواسي نفسها ٠ فلو لا خروج والدها عن تقاليد القبيلة لما وصلت الى هاته المكانة ٠٠
طفح شيء ما بداخلها ؛ لأنها لم تأتي أثناء مرضه ٠وسط هذا الصراع آستسلمت للنوم ٠
مر الاسبوع الأول ثم الثاني بدات سهي تعد لسفرها ٠جمعت لوازمها لكنها لم تجد الجواز ٠ ربما وضع في مكان ما
أسرعت الى أختها تستجلي الامر ٠ كان جواب أختها كالصفعة
فقد أوشكت إجازتها على النهاية ٠ إمتزج الغضب والخوف لدي سهى ٠أعادت البحث من جديد دون جدوى ٠
فجأة دخل أخوها الصغير فسعدت لذلك وسألته عن الجواز
كان جوابه مبهم – لا عودة الى ديار الغربة
بل صعد وصرخ في وجهها
– آبن عمتك ظل ينتظرك طول هاته الفترة ولآجلك إنفصل عن زوجته الاولي ثم الثانية !!
تمالكت سهى نفسها وردت عليه
لقد ملأت سيرته الدنيا وجرت على كل لسان فلن أتزوجه مهما كلفني ذلك
آنقضت ثلاثة أسابيع على سهى وهي تبحث عن حل وقطعت كل الاتصالات مع طوني ٠ مما سبب له حيرة بالغة لذلك قرر السفر والبحث عنها ٠ وما إن وصل الى اليمن ذهب الى سفارة بلاده حتي تساعده على إيجاد حبيبته ٠فهي لها شان عظيم لدي طوني ٠ لقد أحبها بكل جنون فقد أنقذته من جحيم المخدرات التي كادت تفتك بصحته ٠
مدته السفارة بسيارة وسائقها حتي يبحث عن سهى ٠
وما إن وصل الى القرية حتي وجدا صدا منيعا للوصول اليها فقد كان أخوها بالمرصاد له ٠ طال آنتظاره ٠ حاول بكل الطرق لكن الليل داهمه ٠ نصحه مرافقه بالعودة حتي لا يتعرض الى مكروه ؛ إلا أن طوني أصر على البقاء وقال
– لن أتركها ابدا لو كلفني ذلك حياتي ٠٠٠
بدات الريح تعزف لحنا حزينا ومن حين لآخر تخترقه أصوات الذئاب وبعض الطلقات الطائشة التي لا يعرف مصدرها ٠
شعر طوني ومرافقه بالجوع والظمأ ، فبدأ يقبل على التدخين بشراهة ٠٠
تأمل حوله فتعسرت الرؤية ٠ تلك البيوت المتناثرة بدت كالاوهام ٠
مر نصف الليل فجأة طرق شخص نافذة السيارة وأشار على طوني بالسير وراء الشاحنة التي ستنطلق من خلف ذلك المنزل ٠
فما كان من طوني إلا السير ودخول المجهول ٠
مر الليل آخره صعدت الشمس وهي تلهث من شدة الحرارة
طوني نهشه التعب نهشا ٠
فجأة توقفت الشاحنة امام سفارة بلاده ٠ نزل طوني وأسرع نحوها ٠ فتح باب الشاحنة ونظر الى من بداخلها ٠٠٠
إنها سهى آختلط الفرح واليأس والامل بالشوق لكن سرعان ما تدخل احد موظفي السفارة وامرهما بالذهاب الى المطار
نظرت سهى الى طوني فشعرت بالامان ٠٠٠
لكنه سالها – من قام بهذا العمل
– هو شيخ القبيلة المجاورة لنا فهو صديق والدي ٠٠٠